للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

المسجد المعهود عند الناس، فالأرض المحوطة ليست مسجدًا داخلة في بناء المسجد؛ لأنَّها تقبل التغيير، كما لا يخفى؛ فافهم.

وقوله: (بنى الله له مثلَه في الجنة) : جواب الشرط، وإسناد البناء إلى الله مجاز اتفاقًا قطعًا، وإنما أظهر الفاعل فيه؛ لأنَّ في تكرار اسمه تعظيم له، وتلذُّذ للذاكر كقوله:

أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره... هو المسك ما كرَّرته يتضرَّع

قاله إمام الشَّارحين.

وزعم ابن حجر: لئلا تتنافر الضمائر أو يتوهَّم عوده على باني المسجد.

وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (كلا الوجهين غير صحيح، أمَّا الأول؛ فلأنَّ التنافر إنَّما يكون إذا كانت الضمائر كثيرة، وليس هنا كذلك، وأمَّا الثاني؛ فممنوع قطعًا؛ للقرينة الحالية والمقالية) انتهى.

و (مثلَه) : منصوب على أنَّه صفة لمصدر محذوف؛ أي: بناءً مثلَه في الجنة، متعلِّق بمحذوف وقع صفة لـ (مثله)، والتقدير: بنى الله له مثله كائنًا في الجنة.

وزعم ابن حجر أنَّه متعلق بـ (بنى) أو هو حال من مثله.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (ليس كذلك، وكيف يكون حالًا من مثله، وشرط الحال أن يكون من معرفة، كما عرف في موضعه، ولفظة «مثل» لا تتعرف وإن أضيفت (١)) انتهى.

واعترضه العجلوني، فزعم أنَّ (مثل) يتخصص، وهو كافٍ في مجيء الحال منه.

قلت: وهو فاسد؛ لأنَّ النحاة نصُّوا على أن (مثل) لا يتعرف، وإن أضيف فهو على التنكير أبدًا، ولم ينصَّ أحد على أنَّه يتخصَّص، ولا على أنَّه كافٍ، فهو قول لا دليل عليه؛ فافهم.

وقال إمام الشَّارحين: «المثل» في اللغة: الشبه، يقال: هذا الشيء على مثل هذا؛ أي: شبهه، وقال الجوهري: «مثل» : كلمة تسوية، يقال: هذا مِثله؛ بكسر الميم، ومَثله؛ بفتحها، كما يقال: شِبهه؛ بالكسر، وشَبهه؛ بالفتح، وعند أهل المعقول المماثلة بين الشيئين: هو الاتحاد في النوع، كاتحاد زيد وعمرو في الإنسانية، وإذا كان في الجنس يسمى مجانسة، كاتحاد الإنسان مع الفرس في الحيوانية.

وقد اختلفوا في المراد بالمثلية ههنا؛ فقال قوم- منهم ابن العربي-: يعني مثله في القدر والمساحة، قلت: يردُّ هذا حديث عبد الله بن عمرو عند أبي نعيم الأصبهاني بلفظ: «بنى الله له بيتًا أوسع منه»، ورواه الإمام أحمد أيضًا، وكذلك في حديث أسماء وأبي أمامة عند الطبراني وأبي نعيم، وقال قوم: يعني مثله في الجودة، والحصانة، وطول البقاء، قلت: هذا ليس بشيء على ما لا يخفى، مع أنَّه قد ورد في حديث واثلة بن الأسقع عند أحمد والطبراني: «بنى الله له بيتًا في الجنة أفضل منه») انتهى كلام إمام الشَّارحين.

وقال صاحب «المفهم» : (هذه المثلية ليست على ظاهرها، وإنَّما يعني أنَّه يبني له بثوابه بيتًا أشرف وأعظم وأرفع منه).

وقال النووي: (يحتمل قوله: «مثله» أمرين؛ أحدهما: أن يكون معناه: بنى الله له مثله في مسمى البيت، وأمَّا صفته في السعة وغيرها، فمعلوم فضلها؛ فإنَّها «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، والثاني: أنَّ معناه: أنَّ فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا) انتهى.

واعترضه إمام الشَّارحين، فقال: (الوجه الثاني لا يخلوعن بُعد) انتهى.

قلت: يعني: أنَّ الوجه الأول له وجه، وأما الثاني؛ فليس له وجه صحيح؛ لأنَّ البيوت في الجنة تشمل بيوت الأنبياء، والأصحاب، والأولياء، والمجتهدين، والصديقين، فمن بنى مسجدًا لله تعالى؛ لا يسع أحدًا أن يقول: بنى الله له بيتًا مثل بيوت الأنبياء أو أفضل منها، وما هذا إلا قول صادر من غير تأمل، ولا تصرف كما لا يخفى، فقد ورد في «الصحيح» : أنَّ من أنفق مثل أُحد ذهبًا ما بلغ فضل أصحابه عليه السَّلام؛ فكيف يبلغ ببنائه المسجد بيتًا أفضل من بيته عليه السَّلام في الجنة، فهذا قول غير صحيح أصلًا، كما لا يخفى.

وقال بعض شرَّاح «الترمذي» : ويحتمل أنَّه أراد أن ينبِّه بقوله: (مثله) على الحض على المبالغة في إرادة الانتفاع به في الدنيا، في كونه ينفع المصلين ويكنُّهم عن الحر والبرد، ويكون في مكان يحتاج إليه ويكثر الانتفاع به؛ ليقابل الانتفاع به في الدنيا انتفاعه هو بما يبنى له في الجنة.

وقال صاحب «المفهم» : (هذا البيت -والله أعلم- مثل بيت خديجة رضي الله عنها الذي بُشرت به «ببيت في الجنة من قصب»؛ يريد: من قصب الزمرد والياقوت).

واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (قد ذكرنا حديث أبي هريرة عند الطبراني في «الأوسط» والبيهقي في «شعب الإيمان» : «بنى الله له بيتًا في الجنة من در وياقوت») انتهى، قلت: يعني: فلا خصوصية لبيت خديجة، بل هو عام لكل من بنى لله مسجدًا، ويدل على العموم حديث أنس عند أبي نعيم: «كل بناء وباله على صاحبه يوم القيامة إلا المسجد؛ فإن له به قصرًا في الجنة من لؤلؤ»، ومثله حديث ابن عبَّاس عند أبي مسلم الكجي، فهو يدل على أن ذلك عام، وإفادة هذه الرواية أنَّ المثل المراد به: القصر؛ لأنَّه ينتفع به أكثر؛ لأنَّه يطلُّ على أنهار الجنة وثمارها، وغير ذلك من أنواع النعيم.

وقال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: ١٦٠]، فما معنى التقييد بـ «مثله»؟

قلت: أجابوا عن هذا بوجوه؛ الأول: ما قاله بعضهم أنه عليه السَّلام قاله قبل نزول هذه الآية، قلت: وهذا بعيد ولا يعلم ذلك إلا بالتأريخ، الثاني: أنَّ المثليَّة إنَّما هي بحسب الكميَّة، والزيادة تحصل بحسب الكيفية، قلت: المثلية بحسب الكمية تسمى مساواة؛ كاتحاد مقدار مع آخر في القدر، وفي الكيفية تسمى مشابهة، الثالث: أن التقييد به لا ينفي الزيادة، واستبعده بعضهم، وليس ببعيد، الرابع: أن المقصود منه بيان المماثلة في أن أجزاء هذه الحسنة من جنس العمل لا من غيره، وعندي جواب آخر فتح لي به من الأنوار الإلهية؛ وهو أنَّ المجازاة بالمثل عدلٌ منه، والزيادة عليه بحسب الكيفية والكمية فضلٌ منه) انتهى كلام إمام الشَّارحين.

قلت: ومراده بقوله: (بعضهم) ابن حجر العسقلاني، فإنَّه قد ذكر هذا الجواب في «شرحه»، وهو غير صحيح؛ لأنَّه إنَّما يعلم ذلك بثبوت التاريخ، ولم يوجد، فهو قول بالرأي، والجواب الثالث: قاله الكرماني أيضًا، وهو صحيح؛ لأنَّ القاعدة أنَّ التنصيص على عدد لا ينفي الزيادة عليه، وهو قول المحققين، فكيف يقول ابن حجر: (وهو بعيد)، والظاهر أنَّ معناه بعيد عن فهمه لا عن فهم غيره؛ فافهم، والذي أجاب به إمامنا الشَّارح هو الصواب، ويكون المعنى فيه: بنى الله له عشرة أبنية مثله بحكم الفضل وأوسع بما «لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، وإن كان الأصل أن يكون واحدًا بحكم العدل، وفضل الله أوسع.

ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة؛ لأنَّ الباب معقود في بيان فضل من بنى المسجد؛ ففيه دليل على استحباب بناء المساجد؛ لأنَّها بيوت الله تعالى وقد أضافها تعالى لنفسه بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ...} الآية [التوبة: ١٨]، وحسبك بهذا شرفًا لها، وقد تفضَّل الله على بانيها بأن له بيتًا في الجنة، وثواب المسجد جارٍ مستمرٌّ لمن بناه في حياته وبعد مماته ما دامت السماوات والأرض؛ لأنَّه مسجد إلى يوم القيامة ولو خرب ودثر؛ لأنَّ مراد الواقف الدوام والاستمرار، وزعم ابن بطال أنه إذا خرب ولم يذكر الله فيه؛ لا يكون له ثوابه، وهو ممنوع، فإن الثواب حاصل له مطلقًا؛ لأنَّه مسجد ولو صار


(١) في الأصل: (أضيف)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>