للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

على المبالغة؛ لأنَّ المكان الذي تفحص القطاة عنه لتضع فيه بيضها وترقد عليه، لا يكفي مقداره للصلاة فيه، ويؤيده حديث جابر الذي ذكرناه، وقال آخرون: هو على ظاهره، والمعنى على هذا: أن يزيد في مسجد قدرًا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد، فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر.

قيل: هذا كله بناءًا (١) على أنَّ المراد بالمسجد ما يتبادر إليه الذهن؛ وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد: موضع السجود؛ وهو ما يسع الجبهة؛ فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر.

قلت: قوله (من بنى) يقتضي وجود بناء على الحقيقة مشتمل على المسجد المعهود بين الناس، ويؤيد ذلك حديث أم حبيبة عند الطبراني في «الأوسط» مرفوعًا: «من بنى لله بيتًا»، وحديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «من بنى مسجدًا لله؛ بنى الله له بيتًا في الجنة»، رواه الطبراني في «معجمه»، وفي لفظ: «من بنى مسجدًا يذكر فيه اسم الله»، وكل ذلك يدل على أنَّ المراد بالمسجد: هو المكان المتخذ لا موضع السجود فقط، وهو الذي ذهب إليه الفرقة الأولى، ولكن لا يمنع إرادة موضع السجود مجازًا، فيدخل فيه المواضع المحوطة إلى جهة القبلة، وفيها هيئة المحراب في طرقات المسافرين والحال أنها ليست كالمساجد المبنية بالجدران والسقوف، وربما يجعل منها موضع في غاية الصغر، يدل عليه حديث أبي قرصافة عند الطبراني في «الكبير» : أنه سمع النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها، فمن بنى مسجدًا لله؛ بنى الله له بيتًا في الجنة»، قال رجل: يا رسول الله؛ وهذه المساجد التي تبنى في الطريق؟ قال: «نعم، وإخراج القمامة منها مهور الحور العين»، واسم أبي قرصافة: جندرة بن خيشنة، كذا قرره إمام الشَّارحين في «عمدة القاري» رحمه الباري.

قلت: ويدل لما قاله إمامنا الشَّارح حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا: «من بنى مسجدًا يصلى فيه؛ بنى الله له بيتًا في الجنة أفضل منه»، رواه الطبراني في «معجمه الكبير»، وهو يدل على أنَّ المراد بالمسجد: المسجد المعهود بين الناس؛ فافهم.

ويشترط أن يكون البناء من المال الحلال؛ لأنَّ المسجد قربة إلى الله تعالى، والمال الحرام لا يتقرب به، ولا يحصل له هذا الثواب المخصوص إلا إذا كان من الحلال، يدل عليه حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من بنى بيتًا يعبد الله فيه حلالًا؛ بنى الله له بيتًا في الجنة من الدُّر والياقوت»، رواه البيهقي في «الشعب» والطبراني في «الأوسط»، وحديث أنس مرفوعًا: «كل بناء وَبَاله على صاحبه يوم القيامة إلا المسجد؛ فإنَّ له به قصرًا في الجنَّة من لؤلؤ»، رواه أبو نعيم، وهذا يدل على أنَّ المسجد الذي يكون عليه هذا الأجر هو من بُني من المال الحلال، أما الذي بُني من أموال الناس، كبعض المساجد والمدارس في ديارنا الشامية؛ بنتها الوزراء؛ فهي عليهم وزر، ولا يثابون عليها، ولهذا تراها مظلمة مأوى غير أهلها؛ فافهم.

و (المَفحَص) : بفتح الميم والحاء المهملة كـ (مقعَد)، هو مجثمها؛ لتضع فيه بيضها وترقد عليه، كأنها تفحص عنه التراب؛ أي: تكشفه، والفحص: البحث والكشف.

(قال بكير) هو ابن عبد الله الأشج المذكور: (وحسبت) أي: ظننت (أنَّه) أي: عاصمًا شيخه الذي روى عنه هذا الحديث (قال) في روايته: (يبتغي)؛ أي: يطلب (به)؛ أي: ببنائه المسجد (وجه الله) تعالى؛ أي: ذاته.

قال إمام الشَّارحين: وهذه الجملة مدرجة معترضة، وقعت في البين ولم يجزم بها بكير، فلذلك ذكرها بالحسبان، وليست هذه الجملة في رواية جميع من روى هذا الحديث، فإن لفظهم فيه: «من بنى لله مسجدًا، بنى الله له مثله في الجنة»، فكأن بكيرًا نسي لفظة «لله» فذكرها بالمعنى، فإن معنى قوله «لله» : يبتغي به وجه الله؛ لاشتراكهما في المعنى المقصود؛ وهو الإخلاص، ثم إن لفظة «يبتغي به» على تقدير ثبوتها في كلامه عليه السَّلام؛ تكون حالًا من فاعل «من بنى»، والمراد بـ «وجه الله» : ذاته تعالى، وابتغاء وجه الله: هو الإخلاص؛ وهو أن يكون بنيَّةٍ مخلصةٍ في ذلك طلبًا لمرضات الله تعالى من دون رياء وسمعة، حتى قال ابن الجوزي: «من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه؛ كان بعيدًا من الإخلاص».

فإن قلت: فعلى هذا لا يحصل الوعد المخصوص لمن يبنيه بالأجرة؛ لعدم الإخلاص؟

قلت: الظاهر هذا، ولكنَّه يؤجر في الجملة، يدل عليه ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعًا: «إنَّ الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة؛ صانعه المحتسب في صنعته، والرامي به، والممد به»، فقوله: «المحتسب في صنعته» : هو من يقصد بذلك إعانة المجاهد، وهو أعم من أن يكون متطوعًا بذلك أو بأجرة، لكن الإخلاص لا يكون إلا من المتطوع.

فإن قلت: قوله: «من بنى» حقيقته أن يباشر البناء بنفسه؛ ليحصل له الوعد المخصوص فلا يدخل فيه الأَمْرُ بذلك.

قلت: يتناول الأمرَ أيضًا بنيَّتِه، والأعمال بالنيات، لا يقال: يلزم من ذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ممتنع؛ لأنَّا نقول لا امتناع (٢) فيه عند الشافعي، وأمَّا عند الأئمة الحنفية؛ فهو من باب عموم المجاز، وهو أن يحمل الكلام على معنًى مجازيٍّ يتناول الحقيقة، وهذا يسمى عموم المجاز، ولا نزاع في جواز استعمال اللفظ في معنًى مجازيٍّ يكون المعنى الحقيقي من أفراده، كاستعمال (الدابة) عرفًا فيما يدب على الأرض، ومثال ذلك: فيمن أوصى لأبناء زيد مثلًا، وله أبناء أبناء أبناء يستحق الجميع عند الإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن؛ عملًا بعموم المجاز؛ حيث يطلق الأبناء على الفريقين) انتهى كلام إمام الشَّارحين.

وزعم الكرماني أن من كتب اسمه على المسجد الذي بناه؛ يريد به: التذكير بالدعاء له؛ فإنَّه لا يكون بعيدًا من الإخلاص.

قلت: وكأنه مراده الاعتراض على ابن الجوزي فيما ذكره قريبًا، ولا ريب أنَّه بعيد عن الإخلاص؛ لأنَّه وإن كان مراده التذكير بالدعاء له، لكنه مشوب بالرياء والسمعة، والإخلاص: هو الخالي عن الرياء والسمعة، وليس هذا منه؛ فافهم.

وزعم ابن حجر أنه يدخل في بناء المسجد من حوَّط بقعة من الأرض مسجدًا، أو وقف بناء كان يملكه مسجدًا، انتهى.

قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، وهو مشتمل على شيئين؛ الأول: أنه من حوَّط بقعة من الأرض مسجدًا، وهذا لا يسمى مسجدًا؛ لأنَّ التحويط لا يقال له: بناء، ولأن المراد من المسجد: هو الذي يبقى مسجدًا إلى يوم القيامة، أما هذا؛ فهو قريب التغيير، ولا يعلم أنه مسجد؛ لأنَّ الذي يعلم أنه مسجد هو ما يبنى مسجدًا ويجعل له محراب وغيره من صفة المساجد، والثاني: أنَّه من وَقف بناء كان يملكه مسجدًا، وهذا أيضًا لا يسمى مسجدًا؛ لأنَّ المراد بالبناء مسجدًا: البناء قصدًا لجعله مسجدًا، أما هذا؛ فهو ليس مراده ببنائه مسجدًا؛ بل إنَّما عرض له أن يجعله مسجدًا، وهو وإن كان له ثواب في الجملة، لكن ليس كالثواب الموعود به المخصوص، فإن الأحاديث تدل على أنَّ المراد به: البناء قصدًا، ودلت أيضًا على أنَّ المراد بـ (المسجد) :


(١) في الأصل: (بناء)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (لامتناع)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>