للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قلت: مَنْبِج؛ بفتح الميم، وسكون النون، وكسر الموحدة، آخره جيم: بلدة من كور قنسرين، بناها بعض الأكاسرة الذي غلب على الشام، وسماها: منبه، وبنى بها بيت نار ووكل بها رجلًا فعربت، فقيل: منبج، والنسبة إليها: منبجي على الأصل، ومنبجاني على غير القياس، والباء تفتح في النسبة، كما يقال في النسبة إلى صدف: صدفي؛ بفتحها، وعن هذا قال ابن قرقول: نسبة إلى مَنبِج؛ بفتح الميم، وكسر الباء، ويقال: نسبة إلى موضع يقال له: أنبجان، وفي هذا قال ثعلب: يقال: كساء أنبجاني، وهذا هو الأقرب في لفظ الحديث.

وأما معناها؛ فزعم عبد الملك بن حبيب في «شرح الموطأ» هي كساء غليظ يشبه الشملة، يكون سداه قطنًا غليظًا أو كتانًا غليظًا، ولحمته صوف ليس بالمبرم، في فتله لين غليظ يلتحف بها في الفراش، وقد يشتمل بها في شدة البرد، وقيل: هي من أدوان الثياب الغليظة، يتخذ من الصوف، وقيل: هو كساء غليظ لا علم له، فإذا كان للكساء علم؛ فهو خميصة، وإن لم يكن؛ فهو أنبجانية، انتهى كلامه

(فإنها) أي: الخميصة (ألهتني)؛ أي: شغلتني، وهو من الإلهاء، وثلاثيه لهي الرجل عن الشيء يلهى عنه؛ إذا غفل، وهو من باب (علِم يعلَم)، وأما لها يلهو؛ إذا لعب؛ فهو من باب (نصَر ينصُر)، وفي «الموعب» : وقد لها يلهو والتهى، وألهاني منه كذا؛ يعني: أنساني وشغلني، كذا في «عمدة القاري».

(آنفًا)؛ بفتح الهمزة الممدودة؛ أي: قريبًا، واشتقاقه من الائتناف (١) بالشيء؛ أي: الابتداء به، وكذلك الاستئناف، ومنه: أنف كل شيء وهو أوله، ويقال: قلت: آنفًا وسالفًا، وانتصابه على الظرفية، قال ابن الأثير: (قلت: الشيء آنفًا؛ أي: في أول وقت يقرب مني) انتهى.

(عن صلاتي)؛ أي: عن كمال الحضور فيها، وتدبير أركانها وأذكارها، والاستقصاء في التوجه إلى جناب الجبروت، كذا قاله إمام الشَّارحين، وزعم القسطلاني أنه لا يقال هذا المعنى؛ لأنَّ قوله في التعليق الآتي: (فأخاف أن تفتني) يدل على نفي وقوع ذلك، انتهى.

قلت: إمام الشَّارحين قد فسر معنى هذا الحديث وهو يدل على أنه قد وقع الإلهاء منه؛ لأنَّ قوله: (ألهتني) صريح في الوقوع، وأما التعليق؛ فإنه لم يتعرض له هنا، وسيأتي الكلام عليه على أنه يحتمل تعدد القصة؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: فإن قلت: كيف بعث عليه السَّلام بشيء يكرهه إلى غيره؟

قلت: بعثها لأبي جهم لم يكن لما ذكر، وإنما كان لأنها كانت سبب غفلته وشغله عن الخشوع، وعن ذكر الله عز وجل، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «اخرجوا عن هذا الوادي الذي أصابكم فيه الغفلة، فإنه واد به شيطان»، ألا ترى إلى قوله عليه السَّلام لعائشة في الضب: «إنا لا نتصدق بما لا نأكل»، وكان هو صلَّى الله عليه وسلَّم أقوى خلق الله لدفع الوسوسة، ولكن كرهها؛ لدفع الوسوسة.

وزعم ابن بطال أن بعثه عليه السَّلام الخميصة لأبي جهم وطلب أنبجانيته هو من باب الإدلال عليه؛ لعلمه بأنه يفرح بذلك، انتهى.

فإن قلت: أليس فيه تغيير خاطر أبي جهم بالرد عليه؟

قلت: لعلمه بأنه يفرح بذلك، كما زعمه ابن بطال.

قال إمام الشَّارحين: (وهذا ليس بشيء، والأولى منه هو ما دلت عليه رواية أبي موسى المديني: «ردوها عليه وخذوا أنبجانيته»؛ لئلا يؤثر رد الهدية في قلبه، وعند أبي داود: «شغلني أعلام هذه»، وأخذ كرديًّا كان لأبي جهم، فقيل: يا رسول الله؛ الخميصة كانت خيرًا من الكردي) انتهى.

قلت: فهذا يرد ما زعمه ابن بطال، ويدل على أنه عليه السَّلام علم أن أبا جهم يكره رد الهدية، وأنه عليه السَّلام طلب الأنبجانية تطييبًا لخاطره، ولئلا يتأذى قلبه بذلك؛ فافهم.

فإن قلت: أليس فيه إشارة إلى استعمال أبي جهم الخميصة في صلاته؟

قلت: لا يلزم منه ذلك، ومثله قوله في حلة عطارد؛ حيث بعث بها إلى عمر بن الخطاب: «إني لم أبعث بها إليك لتلبسها»، وإنما أباح له الانتفاع بها من جهة بيع أو كساء لغيره من النساء.

فإن قلت: ليست قضية أبي جهم مثل قضية عمر؛ لأنَّه عليه السَّلام قال له: «لم أبعث بها إليك لكذا»، وكذا وهي إذا ألهت سيد الخلق مع عصمته، فكيف لا تلهي أبا جهم، على أنه قيل: إنه كان أعمى، فالإلهاء مقصود عنده؟

قلت: لعله عليه السَّلام علم أنه لا يصلي فيها، ويحتمل أن يكون خاصًّا بالشَّارع، كما قال: «كُلْ، فإني أناجي من لا تناجي».

فإن قلت: المراقبة شغلت خلقًا من أتباعه حتى إنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ولم يعلم به.

قلت: أولئك كانوا يؤخذون عن طباعهم فيغيبون عن وجودهم، وكان الشَّارع عليه السَّلام يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق الخواص غير الكل؛ فقال: «لست كأحدكم»، وإذا سلك طريق غيرهم؛ قال: «إنما أنا بشر»، فرد إلى حالة الطبع، فنزع الخميصة ليس فيه ترك كل شاغل، انتهى.

قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث أحكام؛ ففيه جواز لبس الثوب المعلم، وجواز الصلاة فيه، وفيه أن اشتغال الفكر اليسير في الصلاة غير قادح فيها، وهو مجمع عليه، وزعم ابن بطال وفيه أن الصلاة تصح وإن حصل فيها فكر مما ليس متعلقًا بالصلاة، والذي حكي عن بعض السلف: أنه مما يضر غير معتد به) انتهى.

وفيه طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها، ونفي كل ما يشغل القلب ويلهي عنه، ولهذا قال أصحابنا: المستحب أن يكون المصلي نظره إلى موضع سجوده؛ لأنَّه أقرب إلى التعظيم من إرسال الطرف يمينًا وشمالًا.

وفيه المبادرة إلى ترك كل ما يلهي ويشغل القلب عن الطاعة، والإعراض عن زينة الدنيا والفتنة بها.

وفيه منع النظر وجمعه عما لا حاجة بالشخص إليه في الصلاة وغيرها، وقد كان السلف لا يخطئ أحدهم موضع قدمه إذا مشى.

وفيه تكنية العالم لمن دونه وكذا الإمام.

وفيه كراهة تزويق المحراب في المسجد وحائطه ونقشه وغير ذلك من الشاغلات.

وفيه قبول الهدية من الأصحاب والإرسال إليهم، واستدل به الباجي على صحة المعاطاة في العقود؛ لعدم ذكر الصيغة.

وفيه كراهة الأعلام التي يتعاطاها الناس على أردائهم.

وفيه أن لصور الأشياء الظاهرة تأثيرًا في النفوس الطاهرة (٢) والقلوب الزكية.


(١) في الأصل: (الإيناء)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (الظاهرة)، وهو تصحيف.

<<  <   >  >>