للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بينه وبين الماء ميل فأكثر، والمراد بالرجاء: غلبة الظن، ومثله التيقن، كما في «البحر»، و «الخلاصة»، وقيَّدَبالرجاء؛ لأنَّه لو لم يكن على طمع من الماء؛ فإنه يتيمم ويصلي، كما في «الخانية»، وما قاله القدوري هو ظاهر الرواية؛ ليقع الأداء بأكمل الطهارتين، ورُويَ عن الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف: أن التأخير حتم؛ أي: واجب؛ لأنَّ غالب الرأي كالمتحقق، لكن بشرط ألَّا يفرط في التأخير حتى لا تقع (١) الصَّلاة في وقتٍ مكروه، فلا يؤخر العصر إلى تغير الشَّمس، كما في «الخانية».

واختلف في تأخير المغرب، فقيل: يُؤخر، وقيل: لا يؤخر، كما في «التاتارخانية».

وحاصله: أنه إذا رجا الماء؛ يؤخر إلى آخر الوقت المستحب؛ بحيث لا تقع الصَّلاة في وقتٍ مكروه، وإن كان لا يرجو الماء؛ يصلي في الوقت المستحب؛ كوقت الإسفار في الفجر، والإبراد في ظهر الصَّيف، ونحو ذلك، ويدل لهذا ما رواه الدارقطني من حديث أبي إسحاق، عن علي الصدِّيق الأصغر رضي الله عنه: (إذا أجنب الرجل في السفر؛ يتلوم؛ أي: يتربص ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء؛ يتيمم، ويصلي)، قال ابن حزم: (وبه قال سفيان، وسَعِيْد، وأحمد ابن حنبل، وعطاء)، وقال النووي: (التأخير أفضل بكل حال).

وهذه المسألة أول مسألة خالف الإمام الأعظم فيها شيخه حمَّاد بن سليمان الكوفي حين خرجا لتشييع الأعمش المدفون بديارنا الشَّريفة الشَّامية عند مَقبرة مرج الدَّحداح، فصلى المغرب حمَّاد بالتيمم في أول الوقت، وإمامنا الأعظم صلى بالماء في آخره، وكان ذلك عن اجتهاد منه، فصوَّبه الله تعالى، وأظهره، وجعله إمام الأئمَّة، ورئيس المجتهدين، وفي أتباعه الأولياء الكرام، والملوك العظام رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، ونفعني به والمسلمين آمين.

وقال مالك: (لا يُعجل ولا يُؤخر، ولكن في وسط الوقت)، وفي رواية عنه: (إن أيقن بوجودِ الماء قبل خروج الوقت؛ يؤخر، وإن كان موقنًا أنه لا يجد الماء حتى يخرج الوقت؛ فليتيمم في أول الوقت ويُصلي)، وعن الأوزاعي: (كل ذلك سواء)، وفي رواية عن مالك: إذا وجد الحاضر الماء في الوقت؛ هل يُعيد أم لا؟ ذكر في «المدونة» قولان، وقيل: يعيد أبدًا؛ فافهم، والله تعالى أعلم.

(وقال الحسن) هو البصري رضي الله عنه، مما وصله القاضي إسماعيل في «الأحكام» من وجه صحيح (في المريض عنده الماء)؛ بالتعريف، وفي رواية (ماء)؛ بالتنكير، (ولا يجد من يناوله)؛ أي: يعطيه ويساعده على استعمال الماء؛ (يتيمم) وفي رواية: (تيمم) على صيغة الماضي، وهو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وهذا الأثر فيه تفصيل، وبيانه: أن المريض إذا كان يجد الماء المطلق الطاهر (٢) الكافي لطهارته، فخاف إن استعمله اشتد مرضه، أو امتد -أي: طال زمنه-؛ فإنه يتيمم، وكذا لو كان صحيحًا فخاف حدوث مرض، كذا في «شرح النقاية» للقهستاني، وهذا إنَّما يُعْلم بغلبة الظن عن أمارةٍ، أو تجربة، أو إخبار طبيب حاذق مسلم غير ظاهر الفسق، كذا في «الحلية»، فإن كان المريض لا يخاف اشتداد مرضه ولا امتداده لكنه لا يقدر بنفسه على استعمال الماء ولا يجد مَنْ يُوَضئه بأن كان الماء في بئر أو بعيدًا عنه وهو لا يقدر على القيام؛ فإنه يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه، فإن وجد خادمًا؛ كعبده، أو ولده، أو أجيره؛ لا يجزئه التيمم اتفاقًا، كما في «البحر» عن «المحيط» وإن وجد غير خادمه ممن لو استعان به أعانه ولو زوجته؛ فظاهر المذهب أنه لا يتيمم أيضًا بلا خلاف، كما يفيده كلام «المسبوط»، و «البدائع»، ونقل صاحب «التجنيس» عن شيخه خلافًا بين الإمام الأعظم وصاحبيه: الإمام أبي يوسف والإمام محمَّد بن الحسن؛ فعلى قول الإمام الأعظم: يجزئه التيمم، وعلى قول صاحبيه: لا يجزئه، وعلى هذا الخلاف؛ إذا كان مريضًا لا يقدر على الاستقبال أو كان في فراشه نجاسة ولا يقدر على التحول عنها ووجد من يُحوِّله ويُوجِّهه؛ لا يفترض عليه ذلك عند الإمام الأعظم، وعلى هذا؛ الأعمى إذا وجد قائدًا؛ لا تلزمه الجمعة والحج؛ لأنَّ عنده: لا يعتبر المكلف قادرًا بقدرة غيره، وعندهما: يُعدُّ قادرًا، وكان الإمام حسام الدِّين يختار قولهما، وتمامه في «منهل الطلاب»، والله أعلم بالصواب، وبقول الحسن، قال محمَّد بن إدريس: (وإن وجد من يناوله بالمرض الذي يخاف من الغُسل معه مَحذورًا؛ فإنه يتيمم، ولا يجب عليه القضاء) انتهى.

(وأقبل ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما، ومعه نافع مما وصله مالك في «موطئه» (من أرضه بالجُرُف)؛ بضمِّ الجيم، والراء، وقد تُسكَّن الراء، وهو ما يجرف فيه السيول، وأكلته من الأرض، وهو جمع جِرَفه؛ بكسر الجيم، وفتح الراء، وزعم الزُّبير أن الجُرُف على ميل من المدينة، وقال ابن إسحاق: (على فرسخ)، وهناك كان المسلمون يعسكرون إذا أرادوا الغزو، وزَعم ابن قرقول أنه على ثلاثة أميال إلى جهة الشَّام، وبه أموال عمر، وأموال أهل المدينة، ويعرف ببئر حشم، ومن جمل، كذا قاله إمام الشَّارحين.

(فحضرت العصر) أي: صلاتها، وهما على غير وُضُوء، وليس عندهما ماء (بمَربد)؛ بفتح الميم، كذا قال السفاقسي: (رويناه، وهو في اللغة بكسرها)، وفي «المحكم» : (المِربد) (بمِرْبَد)؛ بكسر الميم عند الجمهور، وهو الموافق للُّغة، وقال السَّفاقسي: (رويناه بفتح الميم)؛ فافهم، وبسكون الراء، وفتح الموحدة، آخره دال مهملة، قال في «المحكم» : (المربد: موضع تحبس فيه الإبل، وقيل: هي خشبة أو عصًا تعترض صدور الإبل، فتمنعها من الخروج، ومربد التمر: جرينهالذي يوضع فيه بعد الجداد؛ لييبس، ومربد البصرة من ذلك؛ لأنَّهم كانوا يحبسون فيه الإبل)، وقال سيبويه: (هو اسم؛ كالمطبخ)، وإنما مثَّله به؛ لأنَّ المطبخ ييبس، وقال السهيلي: (المربد، والجرين، والمسطح، والبيدر، والإندر، والجرجا لغات بمعنًى واحد)، كذا في «عمدة القاري» (النَّعَم)؛ بفتح النون، والعين المهملة، وفي رواية: (الغنم) بالغين المعجمة بعدها نون، وهو مآل الراعية، وأكثر ما يقع النعم على الإبل، وهو على ميلين من المدينة؛ فليُحفظ.

(فصلَّى) أي: ابن عمر


(١) في الأصل: (يقع).
(٢) في الأصل: (المطاهر)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>