للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(فانتبذت)؛ بنون ساكنة، بعدها فوقية مفتوحة، فموحدة، فمعجمة؛ أي: تنحيت (منه)؛ أي: ذهبت ناحية منه، ومادته: نون، وباء موحدة، وذال معجمة، قال الجوهري: (جلس فلان نَُبذة؛ بفتح النون وضمها؛ أي: ناحية، وانتبذ فلان؛ أي: ذهب ناحية)، وقال الخطابي: (فانتبذت منه)؛ أي: تنحيت عنه حتى كنت منه على نبذة)، كذا في «عمدة القاري»، (فأشار)؛ أي: النبيُّ عليه السلام، (إليَّ)؛ بتشديد الياء، بعد أن بعدت منه بيده أو برأسه، ولكن لم يبعد منه بحيث لا يراه، وفي رواية مسلم: (ادْنُه)، وقال ابن حجر: (رواية البخاري هذه بينت أن رواية مسلم (ادنه) كان بالإشارة لا باللفظ)، ورده في «عمدة القاري» حيث قال: (قلت: يرد عليه رواية الطبراني من حديث عصمة بن مالك قال: خرج علينا رسول الله عليه السلام في بعض سكك المدينة، فانتهى إلى سباطة قوم، فقال: «يا حذيفة؛ استرني...»؛ الحديث، فهذا صريح على أن إعلامه كان باللفظ، ويمكن أن يُجمع بين الروايتين بأنه كان عليه السلام أشار أولًا بيده أو برأسه، ثم قال: استرني) انتهى.

واعترضه العجلوني: (بأنه يجوز أن يراد بقوله: فقال: «يا حذيفة؛ استرني» الإشارة؛ لأنَّ القول كالكلام يعبر به لغة عن الإشارة) انتهى.

قلت: فقد زاد في الطنبور نغمة، وهو ممنوع؛ لأنَّه كيف يراد بالقول هنا الإشارة وقد صرح بالقول في قوله: (فقال: يا حذيفة) وهل هذا إلا خروج عن الظاهر؟ ولا يلزم من كون القول يعبر به لغة عن الإشارة أن تكون جميع الأقوال يراد بها الإشارة، فإن الكلام هنا في الحقيقة، وكلامه في المجاز، وإذا وجدت الحقيقة؛ لا يصار إلى المجاز عند المحققين، على أن رواية مسلم (ادنه) تعين أن الإشارة كانت باللفظ فقط على أن المعنى اللغوي هنا غير محتاج إليه أصلًا؛ لأنَّه خروج عن الظاهر فما قاله غير معتدٍّ به؛ فافهم.

وقال ابن حجر: (وليست فيه دلالة على جواز الكلام في حال البول).

ورده في «عمدة القاري» حيث قال: قلت: هذا كلام من غير روية؛ إذ إشارته عليه السلام إلى حذيفة، أو قوله: (استرني) لم يكن إلا قبل شروعه في البول، فكيف يظن من ذلك ما قاله حتى ينفي ذلك) انتهى.

واعترضه العجلوني بأن قوله: (إذ إشارته...) إلخ؛ ممنوع لا سيما في الإشارة، إذ قوله: (فبال...) إلخ؛ كالتصريح في أنها وقعت في حال الشروع في البول، وحينئذٍ فصحَّ قول ابن حجر: (ليس فيه...) إلخ؛ فتأمل.

قلت: تأملته فوجدته قد زاد في الشطرنج جملًا وهو ممنوع، فإن قوله: (فقام كما يقوم أحدكم)؛ أي: تهيَّأ لقضاء الحاجة.

وقوله: (فبال) صريح في أنه شرع في البول، ثم قوله: (فانتبذت) دليل ظاهر على أنه شرع في البول؛ لأنَّه لو لم يشرع به ولم يتهيأ له؛ لما كان انتبذ عنه، فانتباذه دليل على شروعه، والإشارة التي هي دالَّة على أنه قد قال: (ادنه) كما في «مسلم» إنَّما حصلت بعد الشروع بدليل قوله: (فجئته فقمت عند عقبه)، والقيام عند عقبه لا يكون إلا حال قضاء الحاجة، على أن قوله: (استرني) دليل ظاهر على أنه بعد الشروع؛ لأنَّه لو لم يشرع؛ لما أمره بالستر عليه؛ لأنَّ الستر لا يكون إلا بعد الكشف، كما لا يخفى؛ فافهم ذلك ولا تغتر بهذه العصبية الزائدة من العجلوني، فإنه قد أتى بها من عجلون؛ وهي جبال قاسية.

وقال الكرماني: (وإنما بعد منه وعينه تراه؛ لأنَّه كان يحرسه)؛ أي: يحرس النبيَّ عليه السلام، واعترضه في «عمدة القاري» : (بأن هذا إنَّما يتأتَّى قبل نزول قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: ٦٧]؛ لأنَّه عليه السلام كان يحرسه جماعةٌ من الصحابة قبل نزول هذه الآية، فلما نزلت؛ ترك عليه السلام الحرس) انتهى.

وتعقبه العجلوني: بأنه لعلَّ حرسه كان من حذيفة من غير أمر منه، أو المعصوم منه المذكور في الآية القتل أو نحوه؛ فلا يرد الاعتراض؛ فتأمل.

قلت: تأملته فوجدته منقوضًا بوجوه؛ لأنَّ قوله: (لعل حرسه...) إلخ ممنوع؛ لأنَّ حذيفة صحابي جليل يعلم بنزول الآيات وأسبابها وما يتعلق بها، وحين نزول الآية لا ريب أنه كان حاضرًا، أو سمعه من النبيِّ عليه السلام، أو أخبر الصحابة بنزولها، ولا ريب أنه إذا تكفل الله تعالى بعصمته لا يتجرأ أحد على ذلك بعد إخباره تعالى عن عصمته إياه، ويدل لذلك: أنه عليه السلام لم يأمره بالحراسة، وذلك لنزول الآية، فقد تحقق عند النبيِّ عليه السلام العصمةُ من الناس، فلم يحتج إلى الحراسة، وحذيفة لما علم بنزول الآية؛ ترك الحراسة؛ لأنَّ عصمة الله تعالى أبلغ وأعظم، وحراسته لا فائدة بها بعد إخباره تعالى عن العصمة، فهو ممنوع.

وقوله: (المعصوم منه...) إلخ؛ ممنوع أيضًا، فإن العصمة له عليه السلام كانت من الإيذاء، كما أنه عليه السلام كانوا شجُّوه (١) بالحجارة في وجهه، وكسرت رباعيته، وأُطْعِمَ شاة مسمومة، أو بوضع شيء على ظهره الشريف حين يصلي، أو بكلام قبيح كما ثبت ذلك في الصحيح، وعصمته من القتل خارج عن ذلك؛ لأنَّه معصوم منه قبل نزول الآية بدليل قصة بحيرة الراهب وأمثالها؛ لأنَّه لو لم يكن معصومًا؛ لتناوله اليهود والجاهلية وغيرهم وأعدموه عليه السلام، وهو محال قطعًا، فعصمته في الآية مما عدا القتل كما ذكرنا؛ لأنَّ الآية في المائدة، وهي آخر ما نزل من القرآن؛ فافهم وهو موضَّح في كتب التفسير؛ فليحفظ.

(فجئته) عليه السلام، فقال: «يا حذيفة؛ استرني» كما عند الطبراني كما قدمناه، (فقمت عند عقبه)؛ بالإفراد، وللأصيلي: (عند عقبيه)؛ بالتثنية، والعَقِب؛ بفتح العين المهملة، وكسر القاف: وهو مؤخر القدم، وهي مؤنثة، وعقب الرجل أيضًا: ولده وولد ولده، وفيها لغتان؛ كسر العين وسكونها، وهي أيضًا مؤنثة، انتهى (حتى فرغ)؛ أي: من بوله، قال ابن بطَّال: (من السنة أن يقرب من البائل إذا كان قائمًا هذا إذا أمن أن يرى منه عورته، وأما إذا كان قاعدًا؛ فالسنة البعد منه، وإنما انتبذ حذيفة منه؛ لئلا يسمع شيئًا مما يجري في الحدث، فلما بال عليه السلام قائمًا وأمن عليه السلام ما خشيه حذيفة؛ أمره بالقرب منه)، وقال الخطابي: المعنى في إدنائه إياه مع استحباب إبعاده في الحاجة إذا أرادها أن يكون سترًا بينه وبين الناس، وذلك أن السباطة إنَّما تكون في أفنية البيوت المسكونة أو قريبة منها، فلا تكاد تخلو من المار.

وقال ابن حجر: (واستدنى حذيفة؛ ليستره من خلفه عن رؤية من لعله يمرُّ به، وكان قدامه مستورًا بالحائط، أو لعله فعله؛ لبيان الجواز، ثم هو في البول وهو أخف من الغائط؛ لاحتياجه إلى زيادة تكشف ولما يقترن به من الرائحة، والغرض من الإبعاد التستر، وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنوِّ من الساتر)، ثم قال: (وقدَّم المصلحة في تقريب حذيفة؛ ليستره من المارة على مصلحة تأخُّره عنه؛ إذ لم يمكن جمعهما) انتهى.

قلت: وفيه نظر؛ فإن كلامه مأخوذ من كلام الخطابي، وكلامه لا نظر فيه، لكن قد زاد عليه قوله: (ولما يقترن به من الرائحة) وهو ممنوع في حق النبيِّ عليه السلام؛ لأنَّ رائحة فضلاته أطيب من ريح المسك؛ لأنَّها طاهرة، ويدل لذلك أن الصحابة إذا مرُّوا بمكان وشمُّوا رائحة طيبة يعلمون أن النبيَّ عليه السلام تغوَّط في تلك المكان، وكأنه قصد بهذا التعبير الإشارةَ إلى ما قاله الشافعية: من أن فضلاته عليه السلام ليست طاهرة، نعوذ بالله من هذا القول القبيح الذي لا يرضاه ذو (٢) العقل الصحيح.

وقوله: (أو لعله فعله؛ لبيان الجواز) ممنوع، بل إنَّما فعله لأجل الستر فقط بدليل قوله له: «يا حذيفة؛ استرني»؛ لأنَّه لو كان لبيان الجواز؛ لقال له: اقرب مني؛ حتى لا أحد يمر بنا فينظر ما نفعله، وفي باقي كلامه نظر، ولو بيَّناه؛ لطال المقام.

وفي الحديث: أنه إذا أراد قضاء حاجته يتوارى عن أعين الناس بما يستره من حائط ونحوه، وفيه: جواز البول قائمًا وقاعدًا، وفيه: جواز قرب الإنسان من البائل، وجواز طلب البائل القرب منه؛ ليستره، واعترض بأنه قد صح في «الصحيح» أنه عليه السلام قال حين أراد قضاء الحاجة: «تنحَّ»، وتباعده عن الناس حين قضائها هو المعروف من عادته، وأجيب: بأن ما هنا من التقريب، كأنْ كان عند القيام، وما هناك كان من الإبعاد والتنحِّي كان عند القعود، والفرق بينهما خوف سماع الصوت الخارج مع القعود


(١) في الأصل: (يشجوه)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (ذي)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>