للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وارد في الشك؛ وهو تساوي الأمرين، كما بينه الحديث الثاني.

واعترض النووي، فزعم أنَّ تفسير الشك هكذا اصطلاح طارئ للأصوليين، وأمَّا في اللغة؛ فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يسمى: شكًّا، سواء المستوي والراجح والمرجوح، والحديث يحمل على اللغة ما لم يكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية، فلا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح.

ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا غير جيد؛ لأنَّ المراد الحقيقة العرفية؛ وهي أن الشك في اللغة: ما استوى طرفاه، ولم يترجح أحد الطرفين على الآخر، ولئن سلمنا أن يكون المراد معناه اللغوي؛ فليس معنى الشك في اللغة ما ذكره؛ لأنَّ صاحب «الصحاح» وغيره فسر الشك في باب (الكاف)، فقال: (الشك خلاف اليقين)، ثم فسر اليقين في باب (النون)، فقال: (اليقين العلم)، فيكون الشك ضد العلم، وضد العلم الجهل، ولا يسمى المتردد بين وجود الشيء وعدمه جاهلًا، بل يسمى: شاكًّا، فعلم أنَّ قوله: (وأما في اللغة...) إلى آخره: هو الحقيقة العرفية لا اللغوية، انتهى.

قلت: وقد ذكر النووي في «شرح المهذب» الشك، فقال: (اعلم أنَّ الشك: تردد الذهن بين أمرين على حد سواء عند الأصوليين، وقالوا: التردد بين الطرفين إن كان على السواء؛ فهو الشك، وإلا؛ فالراجح الظن، والمرجوح وهم) انتهى.

فهذا يرد عليه؛ فافهم.

وفي «عمدة القاري» : (فإن قلت: المصير إلى التحري؛ لضرورة، ولا ضرورة هنا؛ لأنَّه يمكنه إدراك اليقين بدونه بأن يبني على الأقل، فلا حاجة إلى التحري، قلت: التحري يحتاج إليه هنا؛ لأنَّه قد يتعذر عليه الوصول إلى الذي اشتبه عليه بدليل من الدلائل، والتحري عند عدم الأدلة مشروع، كما في أمر القِبلة) انتهى.

قلت: على أنَّه لم يعلم اليقين ليبني عليه، فمتى شك؛ بقي على احتمال الطرفين، وترجيح أحدهما غلبة ظن، وأما اليقين؛ فهو وهم، كما لا يخفى.

فإن قلت: يستقبل الصلاة؟

قلت: لا حاجة لذلك؛ لأنَّه عساه أن يقع له مرة ثانيًا أو ثالثًا إلى ما لا نهاية له.

فإن قلت: يبنيه على الأقل؟

قلت: لا وجه لذلك أيضًا؛ لأنَّ ذلك لا يوصله إلى ما عليه، فلا يبني على الأقل إلا عند عدم وقوع تحريه على شيء، كما ذكرنا.

قلت: والبناء على الأقل عند الشك -الذي هو استواء الطرفين- لا فائدة فيه؛ لأنَّه لم يترجح عنده أحدهما حتى يبني عليه، فهذا اليقين هو الوهم نفسه، فغلبة الظن الأخذ بها صواب؛ فافهم.

وزعم الشافعية أنَّ في الحديث [حجة] على أنَّ كلام الناسي لا يبطل الصلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام في حكم الناسي أو الساهي؛ لأنَّه كان يظن أنَّه ليس فيها، وقال أبو عمر (١) (ذهب الشافعي: إلى أنَّ الكلام والسلام ساهيًا في الصلاة؛ لا يبطلها، وهو قول مالك وأصحابه)، وقال مالك: تعمُّد الكلام في الصلاة إذا كان لشأنها وإصلاحها؛ لا يفسدها، وهو قول ربيعة، وقال أحمد: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها؛ لم تفسد، فإن تكلم لغير ذلك؛ فسدت، وقال الشافعي: من تعمد الكلام، وهو يعلم أنَّه لم يتم صلاته، وأنَّه فيها؛ أفسدها، فإن تكلم ناسيًا، أو تكلم وهو يظن أنَّه ليس في الصلاة؛ لا تبطل، وأجمعوا على أنَّ الكلام عامدًا إذا كان المصلي يعلم أنَّه في الصلاة ولم يكن ذلك لإصلاحها؛ أنَّها تفسد، وروي عن الأوزاعي: أنَّه من تكلم لإحياء نفس ونحوه؛ لم تفسد صلاته، وقال الشافعي: إذا تكلم لإحياء صبي [من] الوقوع في هلكة أو نحوها؛ تبطل صلاته، وذهب أحمد: أنَّها لا تبطل، وهو قول أصحاب الشافعي.

قلت: ولا دليل لهؤلاء على ما قالوه، بل إنَّه لا يجوز الكلام في الصلاة إلا بالتكبير، والتسبيح، والتهليل، وقراءة القرآن، ولا يجوز أن يتكلم في الصلاة لأجل شيء حدث من الإمام في الصلاة، والكلام يبطل الصلاة مطلقًا، سواء كان عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا، وسواء كان إمامًا أو مقتديًا أو منفردًا، سواء كان لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها، فالكلام في الصلاة يفسدها على أي حال كان، وهذا مذهب رأس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه، وهو قول حماد بن أبي سليمان، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وسفيان الثوري، وعبد الله بن وهب، وابن نافع من أصحاب مالك، وهو قول عطاء، والحسن البصري، وغيرهم، واستدلوا بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: ٢٣٨]، قال السدي: (يعني: ساكتين؛ لأنَّ الآية نزلت في منع الكلام من الصلاة، وكان ذلك مباحًا في صدر الإسلام)، وهذا هو الصحيح؛ لما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نُسلِّم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه؛ فلم يرد علينا السلام، فقلنا: يا رسول الله؛ كنا نسلم عليك في الصلاة، فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي؛ سلمنا، فلم ترد علينا، فقال عليه السَّلام: «إن في الصلاة لشغلًا»، وروى زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «إن الله أحدث من أمره ألا تتكلموا في الصلاة»، وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي، أخرجه مسلم مطولًا، وفيه قال عليه السَّلام: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن»، وأخرجه أبو داود والنسائي أيضًا، فهذا نص صريح على تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان عامدًا أو جاهلًا؛ لحاجة الصلاة أو غيرها، وسواء كان ناسيًا أو ساهيًا أو غير ذلك؛ لأنَّ اللفظ مطلق، فيعم الجميع، وأفاد أن الحديث منسوخ؛ لأنَّ الكلام كان مباحًا في صدر الإسلام، ثم نسخ، وحرم في الصلاة، فلا دليل لهم في إباحته، كما لا يخفى، فإن احتاج المصلي إلى تنبيه إمام ونحوه؛ سبح إن كان رجلًا، وصفقت إن كانت امرأة،


(١) في الأصل: (عمرو)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>