للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

رجع إلى قول أصحابه وبنى عليه، وهو حجة على الشافعية حيث زعموا أنه لا يجوز للمصلي الرجوع في قدر صلاته إلى قول غيره إمامًا كان أو مأمومًا، ولا يعمل إلا على يقين نفسه.

وأجاب الكرماني: (بأنه عليه السَّلام سألهم؛ ليتذكر، فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه، لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير، وأنَّ قول السائل أحدث شكًّا عنده عليه السَّلام، فسجد بسبب حصول الشك له، فلا يكون رجوعًا إلا إلى حال نفسه).

ورده إمام الشَّارحين فقال: هذا كلام فيه تناقض؛ لأنَّ قوله: (سألهم...) إلى قوله: (فبنى عليه) رجوع إلى قول الغير بلا نزاع، وقوله: (لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير) : يناقض ذلك، وقوله: (فسجد بسبب حصول الشك) : غير مسلم؛ لأنَّ سجوده إنَّما كان للزيادة لا للشك الحاصل من كلامهم؛ لأنَّه لو شك؛ لكان تردُّدًا (١)؛ إذ مقتضى الشك التردد، فحين سمع قولهم: «صليت كذا وكذا»؛ ثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين) انتهى.

يعني: فيكون رجوعًا إلى قول الغير.

قلت: وظاهر الحديث يدل على أن هذا رجوع إلى قول الغير؛ لأنَّه قال السائل: (يا رسول الله؛ أحَدَث في الصلاة شيء؟)؛ أي: من الوحي، فقال عليه السَّلام له: «وما ذاك؟»، وهو سؤال من لم يشعر بما وقع منه، فقالوا: (صليت كذا وكذا)؛ كناية عما وقع، فاعتمد على قولهم، وثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، فكان سجوده عليه السَّلام عملًا بقولهم، ورجوعًا إلى ما قالوه له، ولو كان كما زعمه الكرماني من أنه سألهم ليتذكر، فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه؛ لكان قوله: «وما ذاك؟» لا فائدة فيه، وكذلك قوله: (قالوا: صليت كذا وكذا)، فإنه لو كان عالمًا بالسهو؛ لكان حين قال السائل له: (أحدث في الصلاة شيء؟)؛ تذكر، ولم يسألهم، فسؤاله (٢) لهم دليل على أنه عليه السَّلام قد رجع إلى قولهم، وبنى عليه، ويدل عليه الفاء التعقيبية في قوله: (فثنى)، فإنها أفادت أنه حين سمع قولهم: (صليت كذا وكذا)؛ عقب ذلك بالثني لرجليه، ولم يتذكر، ولو كان في ذكره شيء؛ لما احتاج إلى سؤالهم وجوابهم، وهذا ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم.

وما زعمه من قول السائل: (أحَدَث...) إلى آخره: ممنوع، فإن سجود السهو شرع في الزيادة أو النقصان لا للشك، فسجوده عليه السَّلام كان لأجل الزيادة، يدل عليه قول السائل: (أحَدَث)؛ أي: شيء من الوحي يوجب الزيادة في الصلاة، وصرح الحميدي: (أنه عليه السَّلام قد زاد في صلاته)، فثبت أن السجود كان للزيادة؛ فافهم.

وأجاب النووي عن الحديث: (بأنه عليه السَّلام سألهم؛ ليتذكر؛ فلما ذكروه؛ تذكر، فعلم السهو، فبنى عليه لا أنه رجع إلى قولهم، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره؛ لرجع ذو اليدين حتى قال عليه السَّلام: «لم تقصر ولم أنس»).

ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا ليس بجواب مخلص؛ لأنَّه لا يخلو عن الرجوع، سواء كان رجوعه للتذكير أو لغيره، وعدم رجوع ذي اليدين كان لأجل كلام الرسول لا لأجل يقين نفسه)؛ فافهم.

قلت: وكأن الكرماني أخذ كلامه من كلام النووي، ونسبه لنفسه، وكلامهما باطل ومحاولة وعدول عن الظاهر؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامهم، والحق أن حديث الباب حجة عليهم؛ لأنَّه مصرح بأنه عليه السَّلام قد رجع إلى قولهم، وبنى عليه، كما قدمناه لك؛ فافهم.

وزعم الكرماني فإن قلت: الصواب غير معلوم، وإلا؛ لما كان ثمة شك، فكيف يتحرى الصواب؟ قلت: المراد منه المتحقق المتيقن؛ أي: فليأخذ باليقين.

ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا الذي قاله بناء على ما ذهب إليه إمامه، فإنه فسر «الصواب» : الأخذ باليقين، وأما عند الإمام الأعظم؛ فالمراد منه: البناء على غالب الظن واليقين (٣) في أين ههنا؟) انتهى.

قلت: وما زعمه الكرماني باطل؛ لأنَّ المراد من قوله عليه السَّلام: «فليتحرَّى الصواب» : غلبة الظن؛ لأنَّ التحري: طلب إحدى الأمرين وأولاهما بالصواب، وغلبة الظن: هو صواب الأمرين، ويدل عليه رواية مسلم: (فليتحرَّ (٤) الذي يرى أنه صواب)، وفي أخرى: (فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب)، فعلم من ذلك أن الصواب معلوم، وهو غلبة الظن، وأما المتيقن؛ فليس يفهم من الحديث؛ لأنَّه لو كان مراده بـ (الصواب) : المتيقن؛ لقال: فليأخذ باليقين، ولما عدل عنه إلى قوله: (فليتحرَّى)؛ علم أن المراد بـ (الصواب) : غلبة الظن؛ فإنه بمنزلة اليقين، فإن اليقين لم يعلم ههنا، والعناد بعد ذلك مكابرة، فقام لنا الدليل على أن المراد بقوله: (فليتحرَّى الصواب) : البناء على غالب الظن؛ فليحفظ.

وفي الحديث: حجة قوية، ومحجة مستقيمة للإمام الأعظم رأس المجتهدين، وأصحابه، والكوفيين: على أن من شك في صلاته في عدد ركعاتها؛ تحرى؛ لقوله عليه السَّلام: «فليتحرى الصواب»، وبنى على غالب ظنه، ولا يلزمه الاقتصار على الأقل، وهو حجة على الشافعي في قوله: من شك هل صلى ثلاثًا أم أربعًا مثلًا؛ لزمه البناء على اليقين، وهو الأقل.

فإن قلت: أمر الشَّارع بالتحري، وهو القصد بالصواب، وهو لا يكون إلا بالأخذ بالأقل الذي هو اليقين على ما بينه في حديث أبي سعيد الخدري: أنَّه عليه السَّلام قال: «إذا صلى أحدكم، فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا؛ فليبن على اليقين، ويدع الشك...»؛ الحديث، أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

قلت: هذا محمول على ما إذا تحرى ولم يقع تحريه على شيء، ففي هذا نقول: يبني على الأقل؛ لأنَّ حديثه هذا قد ورد في الشك؛ وهو ما استوى طرفاه ولم يترجح له أحد الطرفين، ففي هذا يبني على الأقل بالإجماع، انتهى قاله في «عمدة القاري».

قلت: ويدل لما قاله ما رواه النسائي، وابن ماجه، والدارقطني عنه عليه السَّلام أنه قال: «إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدةً صلى أو ثنتين؛ فليبن على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثًا؛ فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا؛ فليبن على ثلاث...»؛ الحديث، فأفاد أن المصلي إذا لم يقع تحريه على شيء؛ يبني على الأقل، أمَّا إذا تحرى ووقع تحريه على شيء؛ وجب الأخذ به؛ لقوله عليه السَّلام: «فليتحرى الصواب، فليتم»، فالحديث


(١) في الأصل: (تردد)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (فسأله)، وهو تحريف.
(٣) في الأصل: (المتيقن)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٤) في الأصل: (فليتحرَّى)، و المثبت موافق لما في «صحيح مسلم».

<<  <   >  >>