المهملة، من البخس (١)؛ وهو النقص، فكأنه ظهر له نقصانه عن مماشاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو رواية المستملي؛ لِمَا اعتقده في نفسه من النجاسة.
السابعة: (فاحتبست)؛ بحاء مهملة، ثم مثناة فوقية، ثم موحدة، ثم سين مهملة، من الاحتباس؛ والمعنى: حبست نفسي عن اللحاق بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
الثامنة: (فانسللت)؛ بنون، ثم سين مهملة، بعدها لامين؛ والمعنى: مضيت عنه مستخفيًا، وهو رواية مسلم والنسائي، كذا قرره صاحب «عمدة القاري» ولم يسبقه أحد به من الشراح، وزعم ابن حجر أنه لم يثبت له من طريق الرواية غير ما تقدم، وأراد به رواية الكشميهني، وأبي الوقت، والمستملي، ونسب بعضها إلى التصحيف.
ورده صاحب «عمدة القاري» : (بأنه لا يلزم من عدم ثبوته غير الروايات الثلاث عنده عدم ثبوتها عند غيره، وليس بأدب أن ينسب لبعض غير ما وقف عليه إلى التصحيف؛ لأنَّ الجاهل بالشيء ليس له أن يدعي عدم علم غيره به) انتهى.
وأجاب ابن حجر في «الانتقاض» فزعم بقوله الملازمة ثابتة هنا؛ لأنَّ القصة واحدة، والمخرج واحد، واللفظ الذي نطق به أبو هريرة واحد، فما يبقى إلا الترجيح والمرجوح أن يثبت في الرواية حمله على أن الراوي ذكر تلك اللفظة بالمعنى، فإن لم يثبت؛ حمل على أنه صحفه، وحمل رواية الحافظ المتقن على الصواب أولى من حمل رواية غيره عليه، وليس هنا ما يثبت الجهل ولا ما يزيل الأدب، ولكن رمتني برأيها، وانسلت) انتهى.
قلت: وهذا كلام من ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء، فإن قوله: (الملازمة هنا ثابتة...) إلخ لا يخفى فساده؛ لأنَّ القصة متعددة مختلفة، والمخرج أيضًا مختلف، واللفظ الذي نطق به أبو هريرة مختلف، يدل لذلك أن أبا هريرة كان يمر في الطريق ويقعد من أجل الجوع، وكذلك كان يفعل من أجل الجنابة، فما المانع أنه رآه عليه السلام مرارًا مختلفة، وكان يتلفظ بألفاظ مختلفة؟ ويدل لهذا أيضًا ما سيأتي في الباب بعده، فإن ما ذكر فيه قصة أخرى غير هذه كما لا يخفى، فأين الملازمة؟ ويلزم على ما قاله هذا القائل أن يكون لفظ أبي هريرة لفظة واحدة ولا يخفى فساده؛ لما ثبت في الروايات من اختلاف ألفاظه باختلاف القصة وغيره.
وقوله: (والمرجوح...) إلخ ممنوع؛ لأنَّ الراوي لا يمكن أن يذكر تلك اللفظة بالمعنى، بل يذكرها كما سمعها من غير تعرض للمعنى كما هو وظيفة الرواة.
وقوله: (فإن لم يثبت؛ حمل على أنه صحفه) ممنوع أيضًا؛ فإن هذا الحمل باطل؛ لأنَّ الراوي يحتاط في كلامه مهما أمكن، ولا يجوز حمله على التصحيف؛ لأنَّه مخل في حفظه وإتقانه، وإذا حمل على أنه صحفه؛ لم يبق لحفظه وإتقانه فائدة، ويلزم الخلل في ألفاظ الأحاديث، وهو ممنوع، كما لا يخفى.
وقوله: (وحمل رواية الحافظ...) إلخ هذا تعرض لنفسه بأنه حافظ متقن وليس كما ظن؛ لأنَّه لو كان كما ظن؛ لما كان جهل بقية الروايات وحملها على التصحيف، فإن هذا ينافي الحفظ والإتقان، فإن جميع الروايات تحمل على الصواب سواء كانت من حافظ أو غيره؛ لأنَّ الرواة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، كما لا يخفى.
وقوله: (وليس هنا...) إلخ ممنوع؛ فإن كلامه يدل على الجهل وثبوت عدم الأدب حيث إنه نفى بقية الروايات وهي ثابتة؛ وحيث نسبها إلى التصحيف وهو ينافي الأدب، فكيف قال ابن حجر ما قال؟ وقد أنصف العجلوني هنا حيث قال: والحق أنه حيث أمكن التوجيه لا ينبغي المصير إلى القول بالتصحيف) انتهى.
قلت: وقد وأمكن التوجيه في الروايات كلها كما علمت مما قدمناه، فلا يجوز القول بالتصحيف؛ لأنَّه يثبت الجهل وينافي الأدب؛ فافهم، والله أعلم.
(منه)؛ أي: من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إما حياء منه، أو لما اعتقده في نفسه من النجاسة، كما قدمناه، (فذهبتُ)؛ فالتاء للمتكلم؛ أي: قال أبو هريرة: (ذهبت) (فاغتسلت)؛ أي: من الجنابة وهو بصيغة المتكلم أيضًا، قال الكرماني: وفي بعض النسخ: (فذهب فاغتسل)، قال صاحب «عمدة القاري» : (قلت: على تقدير صحة الرواية بها يجوز فيه الأمران: الغيبة بالنظر إلى فعل كلام أبي هريرة بالمعنى، والتكلم بالنظر إلى نقله بلفظه بعينه على سبيل الحكاية عنه، وإما جواز لفظه بالغيبة، فمن باب التجريد، وهو أنه جرد من نفسه شخصًا وأخبر عنه) انتهى كلامه
قلت: والرواية الأولى هي المناسبة لقوله: (فانخنست).
قال في «عمدة القاري» : (وإنما فعل أبو هريرة هذا؛ لأنَّه عليه السلام كان إذا لقي أحدًا من أصحابه ماسحه ودعا له، كما ورد في النسائي، وابن حبان من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لقيني النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا جنب فأهوى إليَّ فقلت: إني جنب...)؛ الحديث، فلما ظن أبو هريرة أن الجنب ينجس خشي أن يماسحه النبيُّ عليه السلام كعادته، فتأخر لما رآه وبادر إلى الاغتسال من الجنابة، (ثم جاء)؛ أي: أبو هريرة وبعد اغتساله من الجنابة إلى مجلس النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي هريرة («أين كنت يا با هريرة؟»)؛ بحذف الهمزة من الأب تخفيفًا، كذا قاله في «عمدة القاري»، ومثله في «الكرماني»، وهذا ظاهر في أن الرواية بالحذف لا غير؛ فليحفظ.
وزعم العجلوني أن الموجود في كثير من النسخ الصحيحة إثبات الألف، ولم يذكروا هنا ترخيمه مع أنهم ذكروه في الباب الآتي.
قلت: وهو غير صحيح؛ لأنَّه وإن ثبتت الألف؛ فهي تحريف من النساخ والكُتَّاب، فكم رأينا نسخ مضبوطة ومع مراجعتها مع الشراح يظهر خطأ ضبطها وتحريفها من الناسخين.
وقوله: (في كثير...) إلخ لا يخفى فساده، بل أكثر النسخ الصحيحة بحذف الألف، كما يعلم ذلك من مراجعة النسخ.
وقوله: (ولم يذكروا هنا...) إلخ، وإنما لم يذكروه هنا وذكروه في الباب الآتي؛ لأنَّ هذه القصة غير القصة الذي ذكرت في الباب الآتي، ولاختلاف القصة اختلفت ألفاظ الرواة؛ فليحفظ.
(قال)؛ أي: أبو هريرة للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (كنت جنبًا)؛ أي: ذا جنابة، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ أي: لأنَّه اسم جرى مجرى المصدر وهو الإجناب، قاله القسطلاني، وإنما أجابه بهذا مع أن السؤال إنَّما كان عن المكان؛ لما فهمه أبو هريرة من أنه عليه السلام إنَّما سأله عن سبب غيبته لا عن المكان، وإلا؛ فكان حق الجواب أن يقول: كنت في مكان كذا اغتسل؛ لأني كنت جنبًا، ويحتمل أنه عبر بالسبب وأراد المسبب، ويحتمل أن قوله: (كنت جنبًا) متضمن: لأني كنت في المكان الفلاني أغتسل فيه من الجنابة؛ لأنَّ من لازم الجنابة الاغتسال منها؛ فليحفظ (فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة) جملة اسمية وقعت حالًا من الضمير المرفوع في (أجالسك)، و (أجالسك) في قوة المصدر بـ: (أن) المصدرية، (فقال)؛ بالفاء قبل القاف، وسقطت في كلام أبي هريرة على الأفصح في الجمل المفتتحة بالقول، كما قيل في قوله تعالى: {أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ*قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ*قَالَ...} [الشعراء: ١٠ - ١٢] وما بعدها، وأما القول مع ضمير النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فالفاء سببية رابطة فاجتلبت لذلك، ولأبي ذر، وابن عساكر، والأَصيلي قال: أي النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (سبحان الله!) (سبحان) علم للتسبيح؛ كعثمان علم للرجل، وقال الفراء: (منصوب بفعل محذوف لازم الحذف، واستعماله في مثل هذا الموضع يراد به التعجب، ومعنى التعجب هنا: أنه كيف يخفى مثل هذا الظاهر عليك، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»؛ فافهم، ثم قال: وقال ابن الأنباري: (معناه: سبحتك؛ تنزيهًا لك يا ربنا من الأولاد، والصاحبة، والشركاء؛ أي: نزهناك من ذلك)، وقال القزاز: (معناه: براءة الله تعالى من السوء)، وقال أبو عبيد: (نسبح لك: نحمدك ونصلي لك)، وقال الزمخشري: (سبحت الله وسبحت له وكثرة تسبيحاته وتسابيحه)، وفي «المغيث» : (سبحان الله: قائم مقام الفعل؛ أي: أسبحه وسبحت؛ أي: لَفظتَ بسبحان الله، وقيل: معنى (سبحان الله) : أسرع إليه، وألحقه في طاعته من قولهم: فرس سابح، وذكر النضر بن شميل أن معناه: السرعة إلى هذه اللفظة؛ لأنَّ الإنسان يبدأ فيقول: سبحان الله) انتهى كلام «عمدة القاري» رضي الله عنه.
(إن) بكسر الهمزة (المؤمن) وفي رواية: (المسلم) (لا ينجُس)؛ بضمِّ الجيم هو الرواية لا غير، قال ابن سيده: النجَس، والنجُس، والنجس القذر من كل شيء، ورجل
(١) في الأصل: (النخس)، ولعل المثبت هو الصواب.