للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

نجس، والجمع أنجاس، وقيل: النجس يكون للواحد والجمع والمؤنث بلفظ واحد، فإذا كسروا؛ ثنوا، وجمعوا، وأنثوا، ورجل رجس: نجِس يقولونها؛ بالكسر: لمكان رجس، فإذا أفردوه؛ قالوا: نجس، وفي «الجامع» : أحسب المصدر من قولهم: نجس ينجس نجسًا، والاسم النجاسة، وذكر ابن طريف وغيره: (نجس الشيء ونجس نجاسة ونجسًا، ضد طهر)، وفي «الصحاح» : (نجِس الشيء -بالكسر- ينجس نجسًا؛ فهو نجس ونجس)، وقال ابن عديس: نجِس الرجل ونجس نجاسة ونجوسة؛ بكسر الجيم وضمها؛ إذا تقذر، كذا في «عمدة القاري».

قلت: وحاصله: أنه يجوز فيه ضم الجيم وفتحها، وفي ماضيه: كسر الجيم وضمها، فمن كسرها في الماضي؛ فتحها في المضارع، ومن ضمها في الماضي؛ ضمها في المضارع، وذكره الكرماني أيضًا، وهذا ظاهر في أنه يجوز لغة، ولا يجري في الحديث.

وزعم العجلوني: أن قول ابن الملقن: (بفتح الجيم وضمها) بناء على أن ماضيه (نجس) بالفتح أو الضم يقتضي جواز الوجهين في الحديث، انتهى.

قلت: وهو مردود، فإن كلام ابن الملقن مبني على المعنى اللغوي لا على رواية الحديث؛ فهو تفسير له من حيث اللغة، فكيف يقتضي جواز الوجهين في الحديث؟ وما هذا إلا اقتضاء باطل مع أن العجلوني نقل عبارة الكرماني، وقال عقبها: والظاهر عدم جريانه في الحديث، فهذا مناقضة في كلامه ظاهرة، وكأنه جنح له اقتصار ابن الملقن على الوجهين، فظن أنه جائز في الحديث أيضًا، وهو باطل، فأي فرق بين كلام الكرماني وبين كلام ابن الملقن حتى يمنع الأول ويجيز الثاني؟ مع أن الجواز ممنوع في الحديث على أنه لو كان في الحديث رواية أخرى؛ لذكرها أحد شراح «الصحيح»؛ لأنَّ مثل هذا لا يمكن السكوت عنه، وقد راجعت الشراح التي عندي، فلم أرَ من تعرض لذلك، فدل هذا على أن الرواية بضمِّ الجيم فقط؛ فافهم، والله أعلم.

قال صاحب «عمدة القاري» : مطابقة هذا الحديث لإحدى ترجمتي الباب ظاهرة، وهي الترجمة الثانية، وقد عقد الباب له أن المؤمن لا ينجس، وأنه طاهر سواء كان جنبًا أو محدثًا، حيًّا أو ميتًا، وكذا سؤره، وعرقه، ولعابه، ودمعه، وكذا الكافر في هذه الأحكام سواء كان كتابيًّا أو حربيًّا، وسواء كان الشخص حائضًا أو نفساء، وذكر البخاري في «صحيحه» عن ابن عباس تعليقًا: «المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا»، ووصله الحاكم في «المستدرك» عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تنجسوا موتاكم، فإن المؤمن لا ينجس حيًّا ولا ميتًا»، قال: صحيح على شرطهما، ولم يخرِّجاه، وهو أصل في طهارة المسلم حيًّا وميتًا، أما الحي؛ فبالإجماع حتى الجنين إذا ألقته أمه وعليه رطوبة فرجها؛ فإنها طاهرة؛ لهذا الحديث، وهو حجة على من زعم نجاستها، وأما الكافر؛ فحكمه كذلك على ما يأتي، وفي «صحيح ابن خزيمة» عن القاسم بن محمَّد قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن الرجل يأتي أهله، ثم يلبس الثوب فيعرق فيه أينجس ذلك؟ فقالت: قد كانت المرأة تعد الخرقة أو خرقًا، فإذا كان ذلك؛ مسح بها الرجل الأذى عنه ولم تر أن ذلك ينجسه، وفي لفظ: (ثم صليا في ثوبهما)، وروى الدارقطني من حديث المتوكل بن فضيل، عن أم القلوص الناصرية، عن عائشة قالت: (كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يرى على البدن جنابة، ولا على الأرض جنابة، ولا يجنب الرجلُ الرجل)، وقال البغوي: (معنى قول ابن عباس: «أربع لا يجنبن؛ الإنسان، والثوب، والماء، والأرض»؛ يريد الإنسان لا يجنب بمماسة الجنب، ولا الثوب إذا لبسه الجنب، ولا الأرض إذا أفضى إليها الجنب، ولا الماء ينجس إذا غمس الجنب يده فيه)، وقال ابن المُنْذِر: (أجمع أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر، وثبت ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهما) انتهى.

قلت: ولا يلزم من عدم حفظه عدم وجود قول يخالفهما على أنه قال القرطبي في «شرح مسلم» : (الكافر نجس عند الشافعي)، قال العجلوني: (وهو غريب).

قلت: لا غرابة فيه، فقد قال ابن الملقن والنووي: (وأما الميت؛ فالأصح طهارته في أحد قولي الشافعي).

قلت: ومعلوم أن خلاف الأصح الصحيح، فثبت أن للشافعي قولين مصححين؛ فافهم.

ووجه نجاسته أنه حيوان دموي ينجس بالموت؛ فافهم.

وزعم العجلوني في بيان قول ابن المُنْذِر: (ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولها)، قال: (يعني: فيكون عرق الجنب طاهرًا أيضًا عند غيرهما؛ كمالك، وأحمد، والثوري).

قلت: وقد قال القاضي عياض: (وأما الميت؛ ففيه قولان، والأصح الطهارة، ونقل ابن التين عن «المدونة» : أن المريض إذا صلى لا يستند لحائض ولا جنب، وأجازه أشهب)، وقال أبو محمَّد: لا تكاد تسلم من النجاسة، وقال غيره: لأجل أعيانهما لا لثيابهما) انتهى.

قلت: فهذا صريح في أن مذهب مالك فيه خلاف في طهارة عرق الجنب والحائض، وزعم العجلوني أن ما قاله في «المدونة» مبني على الاحتياط.

قلت: وهو ممنوع، فإن قوله: (لا يستند إلى حائض ولا لجنب)، وقول الشارح: (لأجل أعيانهما لا لثيابهما) دليل على النجاسة، كما هو ظاهر، فالحق وجود الخلاف، فمن أين للعجلوني أن ينفي الخلاف، وما هو إلا قول باطل؟! فليحفظ.

وقال ابن المُنْذِر: عرق اليهودي، والنصراني، والمجوسي طاهر عندي، وقال ابن حزم وغيره من الظاهرية: أن عرق المشركين نجس وهو أحد قولي الشافعي؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: ٢٨]، وبمفهوم حديث الباب، وادَّعوا أن الكافر نجس العين، وهذا مردود، وأجاب الجمهور عنه: أنهم نجسو الأفعالِ لا الأعضاء، أو أنهم نجسو الاعتقادِ؛ لأنَّهم لا يتحفظون من النجاسة غالبًا، وأن المراد بالمؤمن أنه طاهر الأعضاء؛ لاعتياده مجانبة النجاسة بخلاف المشرك؛ لعدم تحفظه عنها، ويوضح هذا أن الله تعالى أباح نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك لا يجب عليه من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليه من غسل المسلِمَة، فدل هذا على أن الآدمي الحي ليس بنجس العين؛ إذ لا فرق بين الرجال والنساء، وهذا يردُّ ما تقدم عن «المدونة» وغيرها، وإذا ثبت طهارة الآدمي مسلمًا كان أو كافرًا؛ فعرقه ولعابه طاهران سواء كان جنبًا، أو محدثًا، أو حائضًا، أو نفساء، وإنما خص المؤمن بالذكر في الحديث؛ لشرفه ولمطابقة السؤال في الحديث.

وقال صاحب «عمدة القاري» : (فإن قلت: على ما ذكرت أن المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا ينبغي ألَّا يغسل الميت؛ لأنَّه طاهر؟

قلت: اختلف العلماء من أصحابنا في وجوب غسل الميت، فقيل: إنَّما وجب بحدث يحله باسترخاء المفاصل لا لنجاسته، فإن الآدمي لا ينجس بالموت؛ لكرامته، إذ لو تنجس؛ لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات، وكان الواجب الاقتصار على أعضاء الوضوء، كما في حال الحياة، لكن ذلك إنَّما كان نفيًا للحرج فيما يتكرر كل يوم، والحدث بسبب الموت لا يتكرر، فكان كالجنابة لا يكتفي فيها بغسل الأعضاء الأربعة، بل يبقى على الأصل وهو وجوب غسل البدن لعدم الحرج، فكذا هنا.

وقال العراقيون: يجب غسله؛ لنجاسته بالموت لا بسبب الحدث؛ لأنَّ للآدمي دمًا سائلًا، فيتنجس بالموت قياسًا على غيره من الحيوانات، ألا ترى أنه لو مات في البئر؛ نجسها، ولو حمله المصلي؛ لم تجز صلاته، ولو لم يكن نجسًا؛ لجازت، كما لو حمل محدثًا) انتهى.

واعترضه العجلوني فزعم: (أن الفرعين مبني على مذهبهم؛ أي: الأئمَّة الحنفية وإنه لا يقول بنجس البئر إذا مات فيها؛ لطهارته، وأما في حمل المصلي له؛ فنقول به؛ لما في جوفه من النجاسة مع أنه ميت، بخلاف

<<  <   >  >>