وهاجرت إلى المدينة وهي من المعمرات، وقال ابن عبد البر:(اسمها جذامة؛ بالجيم، والذال المعجمة)، وقال السهيلي:(اسمها آمنة)، وذكرها الذهبي في «التجريد»، ولم يذكر لها اسمًا، كذا في «عمدة القاري»، (أنها أتت بابن لها) : جملة محلها الجر صفة لـ (ابن)، وهو ذكر؛ لأنَّ الابن لا يطلق إلا على الذكر، بخلاف الولد ولم يعلم اسم هذا الولد، كذا في «عمدة القاري»، قلت: ولعله لم يسمَّ حين صدور هذه الواقعة؛ لأنَّه مات وهو صغير في عهد النبي الأعظم عليه السلام؛ فتأمل، (صغير)؛ بالجر صفة لـ (ابن) أيضًا، وهو ضد الكبير، ولكن المراد منه: الرضيع؛ لأنَّه فسره بقوله:(لم يأكل الطعام) فإذا أكل؛ سمي فطيمًا، وغلامًا أيضًا إلى سبع سنين، فعن هذا عرفنا أن الصغير يطلق إلى حد الالتحاء من حين يولد، فلذلك قيد في الحديث بقوله:(لم يأكل الطعام)، و (الطعام) في اللغة: ما يؤكل، وربما خص بطعام البر، وفي حديث أبي سَعِيد:(كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله عليه السلام صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير)، والطَّعم؛ بالفتح: ما يؤديه الذوق، يقال: طعمه مر، والطُّعم؛ بالضم: الطعام، وقد طعم يطعم طعمًا، فهو طاعم؛ إذا أكل أو ذاق؛ مثل غنم يغنم غنمًا؛ فهو غانم، قال تعالى:{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا}[الأحزاب: ٥٣]، وقوله تعالى:{وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}[البقرة: ٢٤٩]؛ أي: من لم يذقه، قاله الجوهري، وقال الفاضل الزمخشري:(ومن لم يذقه، من طعم الشيء: إذا ذاقه، ومنه: طعم الشيء لمذاقه، قال الشاعر:
. . . . . . . . . . . . ... وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخًا ولا بَرْدا
والنُّقاخ؛ بضمِّ النون، وبالقاف، والخاء المعجمة: الماء العذب، كذا في «عمدة القاري»، وقال ابن حجر وقد أخذ من كلام النووي: المراد بالطعام: ما عدا اللبن الذي يرضعه، والتمر الذي يحنك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة وغيرها، ورده في «عمدة القاري» : بأنه لا يحتاج إلى هذه التقديرات؛ لأنَّ المراد من قوله: (لم يأكل الطعام) : لم يقدر على مضغ الطعام، ولا على دفعه إلى باطنه؛ لأنَّه رضيع لا يقدر على ذلك، أما اللبن؛ فلأنَّه مشروب غير مأكول فلا يحتاج إلى استثنائه؛ لأنَّه لم يدخل في (لم يأكل الطعام) حتى يستثنى منه، وأما التمر الذي يحنك به والعسل الذي يلعقه؛ فليس ذلك باختياره، بل بغصب من فاعله؛ قصدًا للتبرك أو المداواة؛ فلا حاجة أيضًا إلى استثنائها، فعلم بما ذكرنا أن المراد من قوله:(لم يأكل الطعام)؛ أي: قصدًا أو استقلالًا أو تقويًّا، فهذا شأن الصغير الرضيع، وقد علمت من هذا أن الذي نقله القائل المذكور عن النووي، ومن نكت التنبيه صادر عن غير روية ولا تحقيق، وكذلك لا يحتاج إلى سؤال الكرماني وجوابه ههنا بقوله:(فإن قلت: اللبن طعام، فهل يختص الطعام بغير اللبن أم لا؟ قلت: الطعام هو ما يؤكل، واللبن: مشروب لا مأكول، فلا يخصص) انتهى كلامه رحمه الله، ورضي الله عنه.
(إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) متعلق بـ (أتت)، قال ابن حجر:(ومن فوائد إتيانها به للنبي عليه السلام إما ليحنكه، أو ليبرك عليه)، ورده في «عمدة القاري» : بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك صريحًا وإن كان جاء هذا في أحاديث أخرى؛ لأنَّ ظاهر الحديث يدل على أن أم قَيْس إنَّما أتت به إلى النبي عليه السلام لأجل التبرك فقط، ولدعائه له هذا النبي الكريم بسعد في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
(فأجلسه) هذه الفاء وما بعدها من الفاءات عاطفات لإفادة التعقيب (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) الضمير المنصوب فيه يرجع إلى (الابن)؛ أي: أقامه عن مضجعه، وزعم ابن حجر:(أي: وضعه؛ إن قلنا: إنه كان كما ولد، ويحتمل أن يكون الجلوس منه على العادة؛ إن قلنا: إنه كان في سن من يحبو)، ورده في «عمدة القاري» : بأن المعنى ليس كذلك؛ لأنَّ الجلوس يكون عن نوم أو اضطجاع، وإذا كان قائمًا؛ كانت الحال التي تخالفها القعود، والمعنى ههنا: أقامه عن مضجعه؛ لأنَّ الظاهر أنَّ أم قَيْس أتت به وهو في قماطه مضطجع، فأجلسه النبي الأعظم عليه السلام؛ أي: أقامه (في حجره) وإن كانت أتت به وهو في يدها؛ فإن كان عمره قد كان مقدار سنة أو جاوزها قليلًا والحال أنه رضيع؛ يكون المعنى: تناوله منها وأجلسه في حجره، وهو يمسكه لعدم مسكته؛ لأنَّ أصل تركيب هذه المادة يدلُّ على ارتفاع في الشيء، والحِّجر؛ بكسر الحاء المهملة وفتحها، وسكون الجيم، لغتان مشهورتان، انتهى كلامه وهو في التحقيق بمكان؛ فافهم، (فبال على ثوبه) يحتمل رجوع الضمير إلى (الابن)؛ أي: بال الابن على ثوب نفسه وهو في حجره عليه السلام، وهو الظاهر، كما قاله ابن شيبان، ويحتمل رجوعه إلى النبي الأعظم عليه السلام، ولا ينافيه أن البول يصل إلى ثوب النبي عليه السلام على المعنى الأول؛ لأنَّ الولد المذكور وضعه عليه السلام وهو مقمط بحفاضه وثيابه، وهو في هذه الحالة لا ينفذ منه شيء إلى حامله، كما هي عادة الصغار؛ فافهم.
(فدعا)؛ أي: النبي: الأعظم عليه السلام (بماء) خوفًا من أن يكون طار على ثوبه منه شيء، (فنضحه)؛ بالحاء المهملة، قال ابن سيده:(نضح الماء عليه ينضحه نضحًا: إذا ضربه به)، وقال ابن الأعرابي:(النضح: ما كان على اعتماد، والنضخ: ما كان على غير اعتماد، وقيل: هما لغتان)، قلت: الأول بالحاء المهملة، والثاني بالخاء المعجمة، فالمراد بالنضح: هو صب الماء؛ لأنَّ العرب تسمي ذلك نضحًا، وقد يُذْكَر ويراد به الغسل كما هنا، وكذلك الرش يُذْكَر ويراد به الغسل، ويدل لذلك ما روى أبو داود وغيره عن المقداد ابن الأسود: أن عليَّ بن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله عليه السلام عن الذي إذا دنا من أهله فخرج منه المذي؛ ماذا عليه؟ قال علي: فإن عندي ابنته، وأنا أستحي أن أسأله، قال المقداد: فسألت رسول الله عليه السلام عن ذلك، فقال:«إذا وجد أحدكم، فلينضح فرجه، وليتوضأ وضوءه للصلاة»، فإن المراد بالنضح: الغسل؛ لأنَّ المذي يجب غسله بالإجماع، ويدل لذلك ما رواه مسلم وغيره عن علي قال: كنت رجلًا مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله عليه السلام لمكان ابنته، فأمرت المقداد ابن الأسود فسأله، فقال:«يغسل ذكره ويتوضأ»، والقضية واحدة، والراوي عن النبي عليه السلام واحد، فهذا يعين أن المراد بالنضح: الغسل، ويدل لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة، وكنت أكثر منه الغسل، فسألت رسول الله عليه السلام، فقال:«إنما يجزئك من ذلك الوضوء»، فقلت: يا رسول الله؛ فكيف بما يصيب ثوبي منه؟ فقال:«يكفيك أن تأخذ ماء، فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه أصابه»، فأراد بالنضح: الغسل، ويدل لذلك ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما:(أنه لما حكى وضوء رسول الله عليه السلام؛ أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها)، وأراد بالرش هنا: صب الماء قليلًا، وهو الغسل بعينه، ويدل لذلك قوله عليه السلام في حديث أسماء رضي الله عنها في غسل الدم:«تحتِّيه، ثم تقرضيه بالماء، ثم تنضحيه، ثم تصلي»؛ ومعناه: تغسليه، هذا رواية الشيخين، وفي رواية الترمذي:«حتِّيه، ثم اقرضيه، ثم رشيه وصلي فيه»، وأراد: اغسليه، قاله البغوي والجويني، فلما ثبت أن النضح والرش يُذْكَران ويراد بهما الغسل؛ وجب حمل ما جاء في هذا الباب من النضح والرش على الغسل بمعنى إسالة الماء عليه من غير عرك؛ لأنَّه متى صب الماء عليه قليلًا قليلًا حتى تقاطر وسال؛ حصل الغسل؛ وهو الإسالة، فلا فرق بين النضح والغسل، كما قاله الجويني، والبغوي، وقال المهلب:(والدليل على أن النضح يراد به كثرة الصب والغسل قول العرب للجمل الذي يستخرج به الماء: ناضح)، وقال ابن القصار: النضح يذكر، ويراد به الغسل، والدليل على صحة ذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت: