للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الصحيح، وهذا مآل يهدم المقصود الإصلاحي من الاستدراك، فكان الرأي تأجيل الاستدراك إلى حين القدوم إلى المدينة.

ومن نماذجه ما جاء في رسالة الليث إلى مالك: «وقد بلغنا عنكم أشياء في الفتيا مستكرهًا، وكنتُ كتبتُ إليك في بعضها فلم تُجبني في كتابي، فتخوّفتُ أن تكون استثقلتَ ذلك، فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكرت، وفيما أوردت فيه على رأيك» (١).

فقدّم الليث بقاء الأخوة الإيمانية على المبادرة بالاستدراك على مالك، لما لم يأتِه الجواب على كتابه الأول.

وقد تقتضي المصلحة عدم التصريح باسم المستدرَك عليه، إذ المقصود في الاستدراك هو العمل، فهو محلّ البحث والتقويم، وقد تقتضي المصلحة ذكر اسم المستدرك عليه كأن يُخشى من اتباع رأيه ولا يكون ذلك إلا بذكر اسمه.

وهذا مستفاد من منهج القرآن والسنة، ففي القرآن تنزل الآية بسبب فعل واحد من المؤمنين فتُقوّم ذلك الفعل وتُرشد إلى ما يُرضي الله فيه دون التعرض لشخص الفاعل كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه -، حيث نزلت فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١)} (٢)،


(١) التاريخ والمعرفة، (١/ ٦٩٣).
(٢) الممتحنة: ١.
وقال ابن كثير في سبب نزولها: «كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن حاطبًا هذا كان رجلا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضًا، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفًا لعثمان. فلما عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فتح مكة لما نقض أهلها العهد، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: «اللهم، عَمِّ عليهم خبرنا».فعمد حاطب هذا فكتب كتابًا، وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة، يعلمهم بما عزم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدًا، فأطلع الله رسوله على ذلك استجابة لدعائه. فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها». [يُنظر: تفسيره، (٤/ ٤١٥)].

<<  <   >  >>