والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه- أن القياس إثبات الحكم بأمارة يغلب على الظن ثبوت الحكم بها إذا عرض على العقل، والعقل لا يهتدي إلى إيجاب صلاة سادسة، وإلى كون نصاب الإبل مقدراُ بخمس، ونصاب الغنم بأربعين، وإلى كون الزنا موجباً لمائة جلدة، وإلى كون الكفارة مقدرة بإطعام عشرة مساكين، من غير زيادة ونقصان، فلا يمكن إثباتها بالقياس.
فإن قيل: نحن نثبت أصل المقدر بالقياس، وأصل هذا المقدر مما يعرف بالعقل، فأما التقدير [فـ] يثبت بالنص، لا بالقياس. كإيجاب الجلدات مثلاُ بالزنا: معقول، لأنه جناية، وهذه عقوبة، فكان ملائماً له، إلا أن كونه مقدراً بمائة لا يدرك بالقياس. فنحن نعلل أصل الحد المقدر بالقياس، دون التقدير. وكذا في سائر المقدرات - قلنا: أثبتم بالتعليل والمقايسة أصل العقوبة، أو هذه العقوبة المقدرة المعينة؟
(أ) - إن قال بالأول- فنحن نقول: كل جناية تستحق بها العقوبة إما عاجلاً أو آجلاً، ولا كلام فيه. إنما الكلام في إيجاب هذه العقوبة المعينة المقدرة، وهذا لأن الجنابة إن كانت مؤثرة في استحقاق العقوبة، وقد وجبت هذه العقوبة المقدرة، ولكن يحتمل أنها وجبت، لأن هذه الجناية ما أوجبت إلا هذا القدر من العقوبة، ويحتمل أنها أوجبت عقوبة ما مقدرة بمقدار ما، إلا أن تعيين هذه العقوبة والتقدير بهذا لمصلحة أخرى لا نقف عليها، فلا يمكن إثبات التعليل بكونها جناية. وكذا هذا الكلام في تكفير اليمين بإطعام عشرة مساكين، وغير ذلك. وكذا هذا في كون النصاب المقدر سبباً لمال مقدر، بعلة كونه شكراً: يحتمل أن شكر هذا المقدار من النعمة [يكفيه] هذا القدر، ويحتمل أن التقدير بهذا القدر لمصلحة أخرى، فلا يمكن إيجاب شيء من ذلك، بالقياس.
فإن قيل: أليس أن أبا حنيفة وأصحابه رحمهم الله أثبتوا الكفارة على المفطر. بالأكل والشرب في رمضان بالقياس، وأنهم قالوا إنما وجبت الكفارة بالوقاع