كان مما أثار انتباهي كثرة حديث الدكتور المسيري رحمه الله عما سماه (النموذج الاختزالي والنموذج المُرَكَّب)؛ حيث أصَّل هذا التعريف في المجلد الأول من موسوعته وأفرد له بحثًا مستقلًا، ثم طبَّق هذا الأصل على باقي مباحث الموسوعة.
وشعورًا مني بأن قارئ هذه الورقات قد أُغلِق عليه فهم ما أرمي إليه في حديثي، فإني أُصَدِّر هذا الفصل بمدخل أتناول فيه إشكالية الاختزال والتركيب هذه، ولعل دافعي هو الرغبة في تكوين رؤية أكثر دقةً وعمقًا وأكثر واقعية ومنطقية وانضباطًا بالشرع لتقدير حجم العدو الذي يواجهه العالم الإسلامي، وكما قال نبي الله شعيب - عليه السلام -: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(١).
...
فبدايةً .. ما المقصود بالنموذج الاختزالي والمركَّب؟
النموذج الاختزالي: يعرِّفه الدكتور المسيري بأنه «النموذج الذي يتجه نحو اختزال العالم إلى عدة عناصر (عادةً مادية) بسيطة. فالظواهر، حسب هذا النموذج، ليست نتيجة تفاعُل بين مركَّب من الظروف والمصالح والتطلعات والعناصر المعروفة، والمجهولة من جهة، وإرادة إنسانية حرة وعقل مبدع من جهة أخرى، وإنما هي نتاج سبب واحد بسيط عام أو سببين أو ثلاثة (قد يكون قانونًا طبيعيًا واحدًا، أو دافعًا ماديًا واحدًا، أو قوة مدبرة خارقة)، تنطبع على عقل متلق لهذا القانون أو الدافع أو القوة ... ومهما تنوَّعت الأسباب وتعدَّدت، فإن التنوع والتعدد من منظور النموذج الاختزالي مسألة ظاهرية، إذ إن كل الأسباب عادةً ما تنحل كلها وتمتزج، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، لتصبح مبدًا واحدًا ثابتًا لا يتغيَّر، تخضع له كل الظواهر بشكل مباشر يُلغي كل الخصوصيات والثنائيات وأشكال التنوع.
ولهذا السبب فإن النماذج الاختزالية نماذج مطلقة مغلقة ترى التاريخ كيانًا يتحرك بطريقة واحدة ونحو نقطة واحدة. وأحداث التاريخ والواقع الإنساني ككل هي نتاج بطولة بطل أو بطلين، أو نتاج عقل واحد متآمر وضع مخططًا جبارًا وصاغ الواقع حسب هواه،