للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي يوم بارد من أيام شهر نوفمبر، وأمام جمع غفير احتشد، اعتلا أوربان الثاني المنصة، وتلا خطابه: "انهضوا وأديروا أسلحتكم التي كنتم تستعملونها ضد إخوانكم، ووجهوها ضد أعدائكم، أعداء المسيحية ... انهضوا إذن ولا تقاتلوا إخوانكم المسيحيين بل قاتلوا أعداءكم الذين استولوا على مدينة القدس، حاربوا تحت راية المسيح قائدكم الوحيد، افتدوا أنفسكم، أنتم المذنبين المقترفين أحط أنواع الآثام وهذه هي مشيئة الرب ... "، وهنا دوت أصوات الألوف من الناس الذين رددوا هذه الكلمة: "هذه هي مشيئة الرب" ... وهكذا بدأت الحروب الصليبية» (١)، والتي كانت - نوعًا ما - كما يصفها القس توماس فولر Thomas Fuller (١٦٠٨ - ١٦٦١ م) بمثابة «البالوعة التي تشفط كل النزاعات من المسيحية» (٢).

وفعلت الجيوش الصليبية فعلتها في المسلمين، وفي يهود، بل وفي بني ملتهم من الأرثوذكس الذين استغاثوا بهم ابتداءً! حتى وصف المؤرخ البيزنطي نيكيتاس كونياتس Niketas Choniates (١١٥٥ - ١٢١٥ م) الموقف بقوله: «إنه حتى المسلمون أكثر رحمة وشفقة مقارنة بهؤلاء الرجال الذين يحملون صليب المسيح على أكتافهم» اهـ (٣).

واستمرت حروب (الفرنجة/الصليبية) قرابة مائتي عام (٤٨٩ - ٦٩٠هـ/١٠٩٦ - ١٢٩١م) حتى باءت بالفشل وعادت قواتها إلى بلادها خائبة خاسرة. ليس ذلك فقط، ولكنها كذلك تركت أثرًا من أعمق الآثار وأبقاها في نفسية الشعب الأوروپي؛ «... فلقد كانت الحروب الصليبية هي التي عينت في المقام الأول والمقام الأهم موقف أوروپامن الإسلام، ولقد كانت الحروب الصليبية في ذلك حاسمة لأنها حدثت في أثناء (طفولة) أوروپا، في العهد الذي كانت فيه الخصائص الثقافية الخاصة قد أخذت تعرض نفسها، وكانت لا تزال في طور تشكلها، والشعوب كالأفراد؛ إذا اعتبرنا أن المؤثرات العنيفة


(١) يواكيم پرنز: بابوات من حي اليهود، أو: بابوات يهود من جيتو روما (كما تسميه الترجمة العربية المتاحة)، ص (٢٠٩ - ١٠) بتصرف يسير. Joachim Prinz: Popes From the Ghetto
(٢) انظر، باربرا تخمان: الكتاب المقدس والسيف (١/ ٦٣). Barbara Tuchman: Bible and Sword
(٣) انظر، هيلين إيليربي: الجانب المظلم في التاريخ المسيحي، ص (٨١). Helen Ellerbe: The Dark Side of Christian History

<<  <   >  >>