للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التي تحدث في أوائل الطفولة تظل مستمرة ظاهرًا أو باطنًا مدى الحياة التالية، وتظل تلك المؤثرات محفورة حفرًا عميقًا، حتى إنه لا يمكن للتجارب العقلية في الدور المتأخر من الحياة والمتَّسم بالتفكير أكثر من اتِّسامه بالعاطفة أن تمحوها إلا بصعوبة، ثم يندر أن تزول آثارها تمامًا ... إن الحمية الجاهلية العامة التي أثارتها تلك الحروب في زمنها لا يمكن أن تقارن بشيء خبرته أوروپامن قبل، ولا اتفق لها من بعد. لقد اجتاحت القارة الأوروپية كلها موجة من النشوة، كانت - في مدة ما على الأقل - عنفوانًا تخطى الحدود التي بين البلدان والتي بين الشعوب والتي بين الطبقات. ولقد اتفق في ذلك الحين، وللمرة الأولى في التاريخ، أن أوروپاأدركت في نفسها وحدة، ولكنها وحدة في وجه العالم الإسلامي. ويمكننا أن نقول من غير أن نوغل في المبالغة أن أوروپاوُلِدَت من روح الحروب الصليبية؛ ففي أثنائها ولدت فكرة (المدنية الغربية)، وأصبحت هدفًا واحدًا تسعى إليه جميع الشعوب الأوروپية على السواء. وكانت تلك المدنية الغربية، عداوة للإسلام، وقفت عرَّابًا (١) في هذه الولادة الجديدة ...

ولم يكن ذلك لأن الصليبيين راموا الحرب، فإن حروبًا كثيرة كانت قد نَشِبت بين الشعوب، وكم من عداوة انقلبت بعد ذلك صداقة، إلا أن الشر الذي بعثه الصليبيون لم يقتصر على صليل السلاح، ولكنه كان قبل كل شيء وفي مقدمة كل شيء شرًا ثقافيًا؛ لقد نشأ تسميم العقل الأوروپي عما شوهه قادة الأوروپيين من تعاليم الإسلام ومُثله العليا أمام الجموع الهائلة في الغرب» (٢).

وفي المسألة تفصيل ..

فإن المجابهة (الدينية/السياسية) مع العالم الإسلامي في القرون الوسطى خلطت عامل الخوف من المنافس القوي مع عامل حب الاطلاع على نمط حياته ومعارفه


(١) تعبير كنسي يقصد به وكيل الطفل المعمَّد.
(٢) محمد أسد: الإسلام على مفترق الطرق، ص (٥٥ - ٨) باختصار. Muhammad Asad: Islam at the Crossroads، ومحمد أسد رحمه الله (١٩٠٠ - ١٩٩٢م) هو صحافي نمساوي يهودي أسلم عام ١٩٢٦م، وكان اسمه ليوپولد فايس Leopold Weiss، وكان أبواه ممن قتلوا في المحرقة النازية، وله عدة مؤلفات إسلامية. للتوسع، انظر، موسوعة ويكيپيديا، مادة: Muhammad Asad.

<<  <   >  >>