للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَادْعُوهُ بِهَا} الآية [الأعراف: ١٨٠] فهي لن تكون حُسنَى لمجرّد اللفظ، بل لدلالتها على أوصاف الكمال، ولهذا لَمّا سمع بعض الأعراب قارئًا يقرأ: "والسارق والسارقة، فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا، نكالًا من الله، والله غفور رحيم" قال: ليس هذا كلام الله تعالى، فقال القارىء: أتُكَذِّبُ بكلام الله تعالى؟ فقال: لا، ولكن ليس هذا بكلام الله، فعاد إلى حفظه، وقرأ: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: ٣٨]، فقال الأعرابيّ: صدقتَ، عَزَّ، فحكم، ولو غفر، ورحِمَ لما قطع.

ولهذا إذا ختمت آية الرحمة باسم العذاب، أو بالعكس ظهر تنافر الكلام، وعدم انتظامه.

وفي "السنن" من حديث أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه- حديث: قراءة القرآن على سبعة أحرف، ثم قال: "ليس منها إلا شافٍ كافٍ، إن قلت: سميعًا عليمًا، عزيزًا حكيمًا، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب".

ولو كانت هذه الأسماء أعلامًا محضة، لا معنى لها، لم يكن فرق بين ختم الآية بهذا، أو بهذا.

ثم قال رحمه الله تعالى: إذا ثبت هذا، فتسميته -صلى الله عليه وسلم- بهذا الاسم لما اشتمل عليه، من مسمّاه، وهو الحمد، فإنه -صلى الله عليه وسلم- محمود عند الله، ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه من المرسلين، ومحمود عند أهل الأرض كلّهم، وإن كفر به بعضهم، فإن ما فيه من صفات الكمال محمودة عند كلّ عاقل، وإن كابر عقله جُحُودًا وعنادًا، وجهلًا باتصافه بها، ولو علم اتصافه بها لحمده، فإنه يحمد من اتصف بصفات الكمال، وإن جهل وجودها فيه، فهو في الحقيقة حامدٌ له، وهو -صلى الله عليه وسلم- اختصّ من مسمّى الحمد بما لم يجتمع لغيره، فإن اسمه محمد، وأحمد، وأمته الحمّادون، يَحمَدون الله في السرّاء والضرّاء، وصلاته مفتتحة بالحمد، وخطبته مفتتحة بالحمد، وكتابه مفتتح بالحمد، هكذا كان عند الله في اللوح المحفوظ أن خُلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحًا بالحمد، وبيده -صلى الله عليه وسلم- لواء الحمد يوم القيامة، ولَمّا يسجد بين يدي ربّه -صلى الله عليه وسلم- للشفاعة، ويؤذن له فيها، يحمد ربّه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأوّلون والآخرون، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: ٧٩].

وقد أطال النفس ابن القيّم رحمه الله في هذا بما لا تجده عند غيره (١).


(١) راجع "جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام" ص ٩٢ - ١٠٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>