للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المتن، وتارة في الإسناد، وليس المراد من هذا العلم مجرد السماع، ولا الإسماع، ولا الكتابة، بل الاعتناء بتحقيقه، والبحث عن خفيّ معاني المتون والأسانيد، والفكر في ذلك، ودوام الاعتناء به، ومراجعة أهل المعرفة به، ومطالعة كتب أهل التحقيق فيه، وتقييد ما حصل من نفائسه وغيرها، فيحفظها الطالب بقلبه، ويقيدها بالكتابة، ثم يُدِيم مطالعة ما كتبه، ويتحرى التحقيق فيما يكتبه، ويتثبت فيه، فإنه فيما بعد ذلك يصير معتمدا عليه، ويذاكر بمحفوظاته من ذلك من يشتغل بهذا الفن، سواء كان مثله في المرتبة، أو فوقه، أو تحته، فإن بالمذاكرة يثبت المحفوظ، ويتحرر، ويتأكد، ويتقرر، ويزداد بحسب كثرة المذاكرة، ومذاكرة حاذق في الفن ساعة، أنفع من المطالعة والحفظ ساعات، بل أياما، وليكن في مذاكراته متحريا الإنصاف، قاصدا الاستفادة، أو الإفادة، غير مترفع على صاحبه بقلبه، ولا بكلامه، ولا بغير ذلك من حاله، مخاطبا له بالعبارة الجميلة اللينة، فبهذا ينمو علمه، وتزكو محفوظاته. انتهى كلام النوويّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى (١)، وهو كلام نفيسٌ جدًّا.

وقال الحافظ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ تعالى فيما كتبه على "علل الترمذيّ": ولا بُدّ في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عَدِم المذاكر به، فليُكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين به، كيحيى بن سعيد القطّان، ومن تلقّى عنه، كأحمد بن حنبل، وابن المدينيّ، وغيرهما، فمن رُزق مطالعة ذلك وفهمه، وفقِهَت نفسه فيه، وصارت له فيه قُوّة نفس، وملَكَة، صلح له أن يتكلّم فيه. قال أبو عبد الله الحاكم: الحجة في هذا العلم عندنا الحفظ، والفهم، والمعرفة لا غير. انتهى (٢).

وقلت ناظمًا هذا المعنى في "ألفية العلل".

يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ ... لَا بُدَّ فِي ذَا الْعِلْمِ أَنْ تُتْقِنَهُ

مُمَارِسًا مُذَاكِرًا بِالْفَهْمِ ... فَذَا سَبِيلُ الْفَتْحِ عِنْدَ الْقَوْمِ

إِنْ لم تَجِدْ مُذَاكِرًا فَلْتَلْزَمِ ... مُطَالِعًا كَلَامَ أَهْلِ الْقَدَمِ

كَالْجِهْبِذِ الْقَطَّانِ وَابْنِ حَنْبَلِ ... وَابْنِ الْمِدِينِيِّ الإِمَام الْجَبَلِ

وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَهُ عِنَايَةُ ... بِخِدْمَةِ الْفَنِّ وَذَوْقٌ ثَابِتُ

فَإِنَّ مَنْ رُزِقَ أَنْ يُطَالِعَا ... كَلَامُهُمْ بِالْحِفْظِ وَالْفَهْمِ مَعَا

وَحَصَلَتْ لَهُ بِهِ مَلَكَةُ ... فَإِنَّهُ فِي الْفَنِّ ثَبْتٌ حُجَّةُ

فَإِنَّمَا الْحُجَّةُ عِنْدَ الْقَوْمِ ... الْحِفْظُ وَالْفَهْمُ وَحُسْنُ الْعَوْمِ


(١) "شرح النوويّ" ١/ ٤٧.
(٢) "شرح علل الترمذيّ" لابن رجب ص ٢٥٧ بتحقيق صبحي السامرائيّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>