للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبه قال الخليل بن أحمد، واستدلّ له بحديث: "ربّ مُبَلَّغِ أوعَى من سامع"، فإذا رواه بالمعنى، فقد أزاله عن موضعه، ومعرفة ما فيه. وذهب بَعضهم إلى جواز تغيير كلمة بمرادفها فقط. وذهب آخرون إلى جوازها إن أوجب الخبر اعتقادًا، وإلى منعها إن أوجب عملًا. وقال بعضهم بجوازها إذا نسي اللفظ، وتذكّر المعنى، لأنه وجب عليه التبليغ، وتحمل اللفظ والمعنى، وعجز عن أداء أحدهما، فيلزمه أداء الآخر. وعكس بعضهم، فأجازها لمن حفظ اللفظ ليتمكّن من التصرّف فيه، دون من نسيه. قال العلامة أحمد محمد شاكر رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة خيالية في نظري (١).

وجزم القاضي أبو بكر بن العربيّ بأنه إنما يجوز ذلك للصحابة دون غيرهم، قال في "أحكام القرآن": إن هذا الخلاف إنما يكون في عصر الصحابة، ومنهم. وأما من سواهم، فلا يجوز لهم تبديل اللفظ بالمعنى، وإن استوفى ذلك المعنى، فإنا لو جوّزناه لكلّ أحد لما كنّا على ثقة من الأخذ بالحديث، إذ كلّ أحد إلى زماننا هذا قد بدل ما نقل، وجعل الحرف بدل الحرف فيما رآه، فيكون خروجًا من الأخبار بالجملة، والصحابة بخلاف ذلك، فإنهم اجتمع فيهم أمران عظيمان.

أحدهما: الفصاحة والبلاغة، إذ جبلّتهم عربيّة، ولغتهم سلقية.

الثاني: أنهم شاهدوا قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وفعله، فأفادتهم المشاهدة عقل المعنى جملة، واستيفاء المقصد كلّه، وليس من أُخبر كمن عاين، إلا تراهم يقولون في كلّ حديث: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا، ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كذا، ولا يذكرون لفظه، وكان ذلك خبرًا صحيحًا، ونقلًا لازما، وهذا لا يستريب فيه منصف لبيانه انتهى (٢).

وقال ابن الصلاح: ومنعه بعضهم في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأجازه في غيره، والأصحّ جواز ذلك في الجميع إذا كان عالمًا بما وصفناه قاطعًا بأنه أدّى معنى اللفظ الذي بلغه؛ لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة، والسلف الأولين، وكثيرًا ما كانوا ينقلون معنى واحدًا في أمر واحد بألفاظ مختلفة، وما ذلك إلا لأن معوّلهم كان على المعنى، دون اللفظ.

ثم إن هذا الخلاف لا نراه جاريًا، ولا أجراه الناس -فيما نعلم- فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يغيّر لفظ شيء من كتاب منصف، ويثبت بدله فيه لفظًا


(١) راجع تعليقه على ألفية السيوطي في الحديث ص ١٦٣.
(٢) "أحكام القرآن" ١/ ١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>