للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في موضع آخر، قال الحافظ رحمه الله تعالى عند ذكر ترجيح الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى لوصل حديث. "لا نكاح إلا بوليّ": ما حاصله: الإستدلال بأن الحكم للواصل دائمًا على العموم من صنيع البخاريّ في هذا الحديث الخاصّ ليس بمستقيم؛ لأن البخاريّ لم يحكم فيه بالإتصال من أجل كون الوصل زيادة، وإنما حكم له بالاتصال لمعان أخرى، رجحت عنده حكم الموصول، منها: أن يونس بن أبي إسحاق، وابنيه إسرائيل، وعيسى رووه عن أبي إسحاق موصولًا، ولا شكّ أن آل الرجل أخصّ به من غيرهم، ووافقهم على ذلك أبو عوانة، وشريك النخعيّ، وزهير بن معاوية، وتمام العشرة من أصحاب أبي إسحاق، مع اختلاف مجالسهم في الأخذ عنه، وسماعهم إياه من لفظه، وأما رواية من أرسله وهما شعبة، وسفيان، فإنما أخذاه عن أبي إسحاق في مجلس واحد، فقد رواه الترمذيّ، قال: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو داود، حدثنا شعبة، قال: سمعت سفيان الثوريّ يسأل أبا إسحاق، أسمعت أبا بُردة يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا نكاح إلا بوليّ" فقال: نعم، فشعبة وسفيان إنما أخذاه معًا في مجلس واحد عرضًا كما ترى، ولا يخفى رجحان ما أخذ من لفظ المحدث في مجالس متعدّدة على ما أخذ عنه عرضًا في محل واحد.

هذا إذا قلنا: حفظ سفيان وشعبة في مقابل عدد الآخرين، مع أن الشافعيّ رحمه الله تعالى يقول: العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد.

فتبيّن أن ترجيح البخاريّ لوصل هذا الحديث على إرساله لم يكن لمجرّد أن الوصل معه زيادة ليست مع المرسل، بل لما يظهر من قرائن الترجيح، ويزيد ذلك ظهورًا تقديمه الإرسال في مواضع أُخَر، مثاله ما رواه الثوريّ، عن محمد بن أبي بكر ابن حزم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أم سلمة -رضي الله عنها-، قالت: إن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن شئتِ سبَعتُ لك ... " الحديث، ورواه مالك عن عبد الله ابن أبي بكر بن الحارث أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال لأم سلمة -رضي الله عنها-، قال البخاريّ في "تاريخه": الصواب قول مالك، مع إرساله. فصوّب الإرسال هنا لقرينة ظهرت له فيه، وصوّب المتّصل هناك؛ لقرينة ظهرت له فيه، فتبيّن أنه ليس له عملٌ مطّرد في ذلك. انتهى كلام الحافظ (١).

وإلى ما تقدّم أشرت في منظومتي "شافية الغُلل" حيث قلت:

زِيَادَةُ الثِّقَةِ فِيهَا اخْتَلَفُوا ... قَبِلَهَا قَوْمٌ وَقَوْمٌ ضَعَّفُوا

وَفَصَّلَتْ طَائِفَةٌ فَإِنْ أَتَتْ ... مِنْ حَافِظٍ ثَبْتٍ فَأَخْذُهَا ثَبَتْ


(١) راجع "النكت على ابن الصلاح" للحافظ رحمه الله تعالى ٢/ ٦٠٦ - ٦٠٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>