للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أكثر أهل الحديث، بل نقل فيه ابن حبان إجماعهم.

ووجه ذلك أن المبتدع إذا كان داعية، كان عنده باعث على رواية ما يُشَيِّد به بدعته، وقد حكى القاضي عبد الله بن عيسى بن لهيعة عن شيخ من الخوراج أنه سمعه يقول بعدما تاب: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صَيَّرناه حديثا، حدث بها عبد الرحمن بن مهدي الإمامُ عن ابن لهيعة، فهي من قديم حديثه الصحيح.

قال: وهذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمراسيل، إذ بدعة الخوارج كانت في صدر الإسلام، والصحابة متوافرون، ثم في عصر التابعين، فمَنْ بَعْدَهم، وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمرا جعلوه حديثا وأشاعوه، فربما سمعه الرجل السني فحدث به، ولم يذكر من حدث به تحسينا للظن به، فيَحْمِله عنه غيره، ويجيء الذي يحتج بالمقاطيع فيحتج به، ويكون أصله ما ذكرتُ، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وينبغي أن يُقَيَّد قولنا بقبول رواية المبتدع إذا كان صدوقا، ولم يكن داعية، بشرط أن لا يكون الحديث الذي يُحَدِّث به مما يَعضِد بدعته، ويُشَيِّدها، فإنا لا نَأْمَن حينئذ عليه غلبة الهوى، فقد نَصّ على هذا القيد في هذه المسألة الحافظ أبو إسحاق إبراهيم ابن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي، فقال في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل: ومنهم زائغ عن الحق، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثه، لكنه مخذول في بدعته، مأمون في روايته، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرَف، إلا ما يُقَوِّي به بدعتهم، فيتهم بذلك. وقال حماد بن سلمة: حدثني شيخ لهم -يعني الرافضة- قال: كنا إذا اجتمعنا، فاستحسنّا شيئا جعلناه حديثا. وقال مسيح بن الجهم الأسلمي التابعي: كان رجل منا في الأهواء مدة، ثم صار إلى الجماعة، وقال لنا: أنشدكم الله أن تسمعوا من أحد من أصحاب الأهواء، فإنا والله كنا نروي لكم الباطل، ونحتسب الخير في إضلالكم. وقال زهير بن معاوية: حدثنا محرز أبو رجاء، وكان يرى القدر، فتاب منه، فقال: لا ترووا عن أحد من أهل القدر شيئا، فوالله لقد كنا نضع الأحاديث، نُدخِل بها الناسَ في القدر، نحتسب بها، فالحكم لله. انتهى كلام الحافظ رحمه اللهُ تعالى (١).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص مما سبق أن المذهب الراجح في الرواية عن المبتدعة هو ما عليه أكثر أهل الحديث، بل نقل الإمام ابن حبّان رحمه الله إجماعهم فيه.


(١) "لسان الميزان" ١/ ١٠٣ - ١٠٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>