للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَأَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو وَطَفِقْ ... كَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقْ

والمعنى: أن بشير بن كعب شرعِ يُحدّث ابن عبّاس رضي الله عنهما (فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا) بضم العين المهملة: أمر من عاد يعود، كقال يقول، يقال: عاد إلى كذا، وعاد له يعود عَوْدةً، وعَوْدًا: إذا صار إليه، وفي التنزيل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} الآية [الأنعام: ٢٨]. والمعنى: أَعِد الحديث الفلانيّ (فَعَادَ لَهُ) أي لذلك الحديث (ثُمَّ حَدَّثَهُ) أي حدّث بُشيرٌ بحديث آخر (فَقَالَ) ابن عباس (لَهُ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا، فَعَادَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ) أي قال بُشير لابن عبّاس (مَا) نافية (أَدْرِي) أي لم أعرف سبب طلبك العود إلى الحديث (أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ، وَأَنْكَرْتَ هَذَا) أي الذي أمره بالعودة إليه (أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ، وَعَرَفْتَ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (إِنَّا كنَّا نُحَدَّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-) يحتمل أن يكون بالبناء للمفعول. أي كان الناس يحدّثوننا، ونستمع منهم. وهذا هو الظاهر؛ لأن السياق يدلّ عليه، وكذا الأثران بعده ظاهران فيه. ويحتمل أن يكون بالبناء للفاعل: أي نحدّث الناس.

قال السنديّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قوله: "نُحدّث" ضُبط في غالب النسخ بكسر الدال على بناء الفاعل، والوجه عندي أنه على بناء المفعول، وهو كناية عن الميل إلى سماع الحديث عن الناس، والأخذ عنهم، فإن كذب الناس يمنع الأخذ عنهم، لا من تعليمهم، بل ينبغي أن يكون علّةً لتعليمهم عقلًا، وهو الموافق لسائر الروايات الآتية. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما استوجهه السنديّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى قويّ، إلا أنه لا يبعد أن يكون بالبناء للفاعل أيضًا، ووجهه أن ظهور الكذب، وكثرة الأهواء يجعل المحدّث يمسك عن حديثه، إذا خاف أن يتّخذوا ذلك وسيلة إلى تقوية أهوائهم، أو خاف الزيادة والنقص بسبب عدم مبالاتهم بالكذب. والله تعالى أعلم.

ثم وجدتُّ القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى صحّح الوجه الأول، ونصّه: الصحيح في "نُحدَّث" بضمّ النون، وفتح الدال المشدّدة، مبنيّا للمفعول، ويؤيّده قوله في الرواية الأخرى: "كنّا إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا". وكذلك وجدته مقيّدًا بخطّ من يُعتمد على علمه وتقييده، وقد وجدته في بعض النسح بكسر الدال، وفيه بُعد، ولعله لا يصحّ. انتهى (١).


(١) "المفهم" ١/ ١٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>