للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رحِمَهُ الله تعالى- في بحث اشتراط اللقاء في "مقدّمة صحيحه" ظنّا منه أن الأصل الذي أصّله البخاريّ إن سُلّم صحّته (١) كان مستلزمًا لردّ ذخيرة من الأحاديث الصحيحة وتوهينها، فاشتدّ نكيره على تلك المقالة وقائلها بأشنع ما يُمكن، ومع هذا فعامّة الشرّاح قد رجّحوا مذهب البخاريّ، وصوّبوه، ولم يلوموا مسلمًا في تشديده وتغليظه.

وهكذا ما جرى بين الصحابة -رضي الله عنهم- من المشاجرات والفِتَن، بناء على التأويل والاجتهاد، فإن كلّ فريق ظنّ أن الواجب ما صار هو إليه، وأنه أوفق وأصلح لأمور المسلمين، فلا يوجب ذلك طعنًا فيهم، وانظر قصّة موسى مع هارون عليهما الصلاة والسلام، وتأمّل فيها تجد فيها شفاءً لما يتخالج في الصدور من مشاجرات الصحابة، ومناقشات الأئمة الثقات. (٢).

فرأى مسلم -رحِمَهُ الله- أن مذهب مخالفه يُلغي شطرًا كبيرًا من السنّة، ويُسقطه من الاحتجاج والعمل به، فكان هذا المذهب في نظره من باب التعنّت على السنّة، والإلغاء لها، فمن هنا اشتدّت غضبة مسلم، وقست لهجته، وتكرّر تهجينه، وتوبيخه، وتلوّن تقريعه وتجهيله؛ لأن هذا المذهب من منظوره حقّا خطير، ووقدة غضبةِ المحدّثين معروفة، وشدّتهم المنكرةُ في حَمْلتهم على مخالفهم مألوفة، ورحمة الله تعالى على مسلم ومخالفه، فكلّ منهما قصد الحِفاظَ على السنّة المطهّرة، فمسلم أراد الحفاظ عليها من أن يُعَطَّل شطرٌ كبيرٌ منها بالتشدّد في شروط قبولها، ومخالفه أراد الحفاظ عليها بأن لا يُحتجّ منها إلا بما ثبتَ بأحوط الطرق في ثبوتها. انتهى (٣).

(الثالث): أنه مما ينبغي التنبّه له أنه اشتهر عند الكثيرين نسبة القول باشتراط اللقاء فقط إلى الإمام البخاريّ رحِمَهُ الله تعالى، وليس الأمر كذلك؛ إذ لم يوجد له نصّ بذلك، وإنما هذا الشرط مستفاد مما ذكره في كتبه، كـ"التاريخ الكبير"، و"التاريخ الصغير"، و"الضعفاء الصغير"، و"جزء القراءة خلف الإمام"، و"جزء رفع اليدين"، و"خلق أفعال العباد"، وكلامه فيها صريحٌ في كونه يشترط السماع زيادةً على اللقيّ.

ولقد أجاد في سرد عبارت الإمام البخاريّ رحِمَهُ الله في الكتب المذكورة الأخ الفاضل خالد بن منصور بن عبد الله الدريس في كتابه "موقف الإمامين"، وذكر من كلامه أكثر من مائة، ودونك بعض الأمثلة لذلك:

ذكر البخاريّ رحِمَهُ الله زيد بن أسلم فيمن روى عن حمران بن أبان، قال: ولم يذكر


(١) صحته مسلمة، لكن باشتراط السماع، لا مجرّد اللقاء، فتنبّه.
(٢) "فتح الملهم" ١/ ٧٢.
(٣) منقول من كلام صاحب "التتمّة" على "موقظة" الذهبيّ رحِمَهُ الله ص ١٢١ - ١٢٣ باختصار.

<<  <  ج: ص:  >  >>