للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أيضًا عن جماعة من الصحابة والتابعين، قال القاضي عياض: وتأول هؤلاء حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا على أنه تطيب، ثم اغتسل بعده، فذهب الطيب قبل الإحرام، ويؤيد هذا قولها في الرواية الأخرى: "طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عند إحرامه، ثم طاف على نسائه، ثم أصبح محرما"، فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه، ثم زال بالغسل بعده، لا سيما وقد نُقِل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى، ولا يبقى مع ذلك، ويكون قولها: "ثم أصبح يَنضَخُ طيبًا": أي قبل غسله، وقد ثبت في رواية لمسلم أن ذلك الطيب كان ذَريرة، وهي مما يُذهبه الغسل، قال: وقولها: "كأني أنظر إلى وَبِيص الطيب في مفارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو محرم"، المراد به أثره، لا جرمه.

وقد تعقّبه النوويّ، وأجاد في ذلك، فقال: هذا كلام القاضي، ولا يُوافَق عليه، بل الصواب ما قاله الجمهور: إن الطيب مستحب للإحرام؛ لقولها: "طيبته لحرمه"، وهذا ظاهر في أن الطيب للإحرام لا للنساء، ويَعضِده قولها: "كأني أنظر إلى وَبِيص الطيب"، والتأويل الذي قاله القاضي غير مقبول؛ لمخالفته الظاهر بلا دليل يحملنا عليه. انتهى كلام النوويّ.

وحاصله أن التطيّب للإحرام بما يَبقَى أثره بعد الإحرام جائز، كما هو مذهب الجمهور؛ لظاهر حديث عائشة -رضي الله عنها- هذا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ثم ذكر المصنّف رحمه الله تعالى أيضًا مثالًا آخر؛ زيادة في الإلزام، فقال:

(وَرَوَى هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، إِذَا اعْتَكَفَ، يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ، فَأُرَجِّلُهُ، وَأَنَا حَائِضٌ". فَرَوَاهَا بِعَيْنِهَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

(وَرَوَى هِشَامٌ) أي ابن عروة (عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- (قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، إِذَا اعْتَكَفَ) أي جلس في المسجد للعبادة. قال في "المصباح": عَكَفَ على الشيء عُكُوفًا، وعَكْفًا، من باب بابي قعد، وضَرَبَ: لازمه، وواظبه. وقرىء بهما في السبعة في قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} الآية [الأعراف: ١٣٨]. وعكفتُ الشيءَ أعكُفُهُ، وأعكِفُهُ: حبسته. ومنه الاعتكاف، وهو افتعال؛ لأنه حبس النفس عن التصرّفات العاديّة. وعكفته عن حاجته. منعته. انتهى (١).


(١) "المصباح المنير" ٢/ ٤٢٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>