أن يقال: إنه يعلم كون الدليل قطعياً من جهة الثبوت بطرق بحسب حال هذا الدليل، فإذا نظرنا في الدليل الذي يزعمون أنه عارض النقل -وهو الدليل العقلي على زعمهم- فمتى يصح أن نقول عن الدليل العقلي: إنه قطعي الثبوت؟ إذا اتفق عليه العقلاء، وإن شئت قل: إذا اتفق عليه أصحاب النظر العقلي، حتى لا ندخل فيما يتكلف له بعض المتكلمين ويقول: العامة ليسوا من أصحابه.
إذاً: إذا اتفق على الدليل أصحاب النظر العقلي، أو هب أن الدائرة أقصر من هذا، وهي: إذا اتفقت عليه طائفة.
فإذا نظرنا إلى أي دليل عقلي يعارضون به النقل فإننا نجد أنهم لا يتفقون عليه بعامة -أعني: النظار- بل ولا تتفق عليه طائفة اتفاقاً تاماً؛ فالدليل الذي يسميه الرازي وغيره من الأشاعرة بأنه دليل قاطع نجد أن المعتزلة لا يعتبرونه دليلاً قاطعاً، ونجد أن دليل المعتزلة الذي نفوا به الصفات لا تعده الأشعرية دليلاً قاطعاً، بل يرونه دليلاً وهمياً مناقضاً للعقل؛ فالمعتزلة تنفي سائر الصفات والأشعرية تقول: إن الدليل العقلي القاطع يدل على ثبوت أصول الصفات.
وبهذا نجد أن كل طائفة من طوائف المتكلمين والنظار الذين خالفوا السلف كل طائفة تختص بدليل تزعم أنه دليل عقلي قاطع، مع أننا نجد إذا رجعنا إلى البدهيات في ضبط الأدلة أن الدليل إذا كان عقلياً لا يكون قطعي الثبوت إلا إذا اتفق عليه النظار -أصحاب النظر العقلي- على أقل الأحوال، إن لم نقل اتفق عليه سائر العقلاء.
إذاً: ليس هناك دليل عقلي واحد اتفق عليه النظار؛ لأن مذاهب النظار متناقضة متعارضة متضادة.
وبهذا يتبين أنه ليس هناك دليل قطعي الثبوت، وإذا لم يكن الدليل قطعي الثبوت فقد انتهى الأمر فيه من كل جهة.
ومع ذلك إذا افترضنا -جدلاً- أن لديهم دليلاً قطعي الثبوت، فيبقى الشأن في الجهة الثانية وهي جهة الدلالة.
فإننا إذا نظرنا إلى جهة الدلالة فإننا نجد أنهم متناقضون فيها، فضلاً عن مناقضة أئمة السنة لهم، فإن المعتزلة تناقض في جهة الدلالة التي تستعملها الأشاعرة والعكس، ومع المشبهة ومع أصناف المجسمة ومع المتفلسفة
وهلم جرا.
إذاً هذا التناقض والتعارض في مذاهب المخالفين للسلف في ثبوت الأدلة وفي دلالتها -الذي هم يصرحون به في كتبهم- دليل على أن النقل لا يعارضه دليل عقلي قاطع لا ثبوتاً ولا دلالة.