[صفات الله عز وجل في التوراة]
[وأيضاً: فقد علم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه، ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات، فلو كان هذا منما حرِّف وبدل لكان إنكار ذلك عليهم أولى].
أي: أن اليهود مع انشغالهم بتحريف كتابهم لم ينكر اشتغالهم بتحريف آيات الصفات مع أنها قطعاً مذكورة في التوراة؛ ولهذا ترى أن بعض اليهود الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يسألونه في تفاصيل بعض الصفات التي هي ليست من الصفات المعلومة بمحض العقل، كالصفات السمعية المحضة، كإثبات صفة الأصابع وأمثال ذلك، ولم ينكر أن اليهود كانوا يشتغلون بتحريف ما جاء في التوراة من الصفات، مع أنهم محرفة لكتابهم بالاتفاق.
[فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات يضحك تعجباً منهم وتصديقاً لها؟! ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة أهل الإثبات، مثل لفظ التجسيم والتشبيه ونحو ذلك، بل عابهم بقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:٦٤] وقولهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:١٨١] وقولهم: إنه استراح لما خلق السماوات والأرض فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:٣٨]
والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن، فإذا جاز أن تتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان، فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى، والثاني مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه باطل، فالأول أولى بالبطلان].
هذا أيضاً يحتاج إلى تأمل؛ لأن فيه بعض التردد من حيث الظاهر فيه، فيحمل على مقصود مناسب.
فإن قوله: والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن.
يفيد أن المعاد مذكور في التوراة كما أنه مذكور في القرآن، فمن باب أولى أن الصفات مذكورة في التوراة كما أنها مذكورة في القرآن، ولكن تصريح التوراة بالمعاد ليس كتصريحها بالصفات.
ثم بعد ذلك يقول: فإذا جاز أن تتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما.
وهذا الحرف مشكل من حيث هذا السياق، فإنه إن كان الانفراد من جهة أن ذكر المعاد في التوراة لم يصرح به كما صرح به في القرآن فأيضاً هذا يرد حتى على مسألة الصفات؛ فإن تفصيل الصفات في القرآن ليس كتفصيلها في أي كتاب قبله.
وإن قصد أن المعاد في التوراة لم يصرح به كما صرح بالصفات فأيضاً المعاد في القرآن لم يصرح به ويفصل كما فصلت الصفات؛ فإن تفصيل الصفات في القرآن أكثر من تفصيل المعاد؛ ولهذا ما وجه هذا الانفراد؟
هذا الحرف مشكل في كلام المصنف، وإذا كان مشكلاً فإنه يحتاج إلى تأمل إن وقع على معنىً مناسب، وإلا ربما كان فيه بعض الوهم من النساخ في سياقه وترتيبه.
وبعبارة أخرى نقول: إن قول المصنف: والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث ..
لا إشكال فيه، والمطابقة هنا التي يذكرها المصنف ليس مطابقة محضة قطعاً، بل هي مطابقة في الجملة، بمعنى أن الصفات مفصلة في التوراة كما أنها مفصلة في القرآن، فليس معناه أن كل ما ذكر في القرآن والسنة فإنه مذكور في التوراة، هذا ليس بلازم وإن تحقق العلم به يتعذر كله.
ثم قال: وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن.
فإن قصد أن المعاد صرح به في التوراة لكن درجة التصريح في القرآن أظهر فهذا لا إشكال فيه، وهذا هو مراد شيخ الإسلام رحمه الله من حيث الأصل، ولهذا لا يمكن أن نحمل قوله: وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن فنقول: إن مقصود المصنف أن المعاد لم يذكر في التوراة صريحاً وإنما ذكر خفياً، لأننا لو فسرنا الكلام بهذا المعنى للناسب فإن النتيجة الأخيرة وهي قوله: فإذا جاز أن تتأول الصفة التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما.
أي: انفرد أحدهما وهو القرآن بالتصريح به والتوراة لم تصرح به، وهذا غلط، لأن هذا يستلزم نتيجة، وهي أن المعاد لم يصرح به في التوراة، وهذا لا يمكن أن يقال، ولا المصنف رحمه الله يلتزمه، ومن أضافه إلى شيخ الإسلام فقد غلط عليه؛ لأن المعاد من أصول الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر، وهذا مذكور في سائر الكتب السماوية.
وأما إن قصد أن التصريح بالمعاد ليس بدرجة التصريح الذي وقع في القرآن فهذا صحيح، لكنه يرد على مسألة الصفات، ومن هنا كان هذا الحرف يمكن أن يمضى على أن المعاد لم يصرح به في التوراة فتكون النتيجة أن المعاد انفرد به أحدهما ويصير القياس سليماً؛ لكن هذا يستلزم الإقرار بمقدمة وهي: أن المعاد لم يصرح به في التوراة، وإنما ذكر خفياً.
أما إذا قيل: لم يصرح به.
أي: كالتصريح القرآني، فهذا أيضاً يرد في مسألة الصفات، فلا يتحقق القياس على الوجه الصحيح، فهذا الحرف يحتاج إلى نظر.