للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الاختلاف في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج]

الثالثة: رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه ليلة المعراج ..

هل رأى ربه أو لم يره؟

آثار الصحابة في هذا جاءت على نوعين:

الأول: عن طائفة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده كما جاء ذلك صحيحاً عن ابن عباس وأبي ذر وغيرهما رضي الله عنهم.

وجاء عن بعض الصحابة ذكر الرؤية مطلقة، وهذا جاء حتى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: رآه.

الثاني: عن طائفة من الصحابة كـ عائشة، فقد صرحت كما في الصحيحين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية.

ولكن بالقطع: أن الذي كانت عائشة رضي الله عنها تصرح بنفيه هو الرؤية البصرية، والذي صرح ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة من الصحابة بإثباته هو الرؤية القلبية، ولم -كما نص شيخ الإسلام - يصح عن واحد من الصحابة أنه صرح بإثبات الرؤية البصرية؛ ومن هنا نزع شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن الصحابة في نفس الأمر ليس بينهم اختلاف، فإن الذي نفته عائشة رضي الله عنها ليس هو الذي أثبته ابن عباس رضي الله عنهما ومن معه، فإن عائشة رضي الله عنها نفت الرؤية البصرية؛ ولهذا استدلت بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] وابن عباس صرح برؤية الفؤاد فقال: رآه بفؤاده.

والرواية الأخرى المطلقة عن ابن عباس تحمل على المقيدة، وعلى هذه الطريقة يكون مذهب الصحابة منضبطاً أنه لم تقع الرؤية البصرية.

لكن هل يقال: أنه رآه بفؤاده أو لا يقال ذلك؟ هذه مسألة اجتهاد.

لكن طائفة من أهل العلم يرون أن الخلاف بين الصحابة على حقيقته، وأنه ليس من باب الخلاف اللفظي، بل هو خلاف حقيقي، ومعتبر هؤلاء ما جاء من تصريح بعض الصحابة بإطلاق الرؤية.

وقد وردت عن الإمام أحمد رحمه الله نصوص في هذا:

فجاء عنه إثبات رؤية الفؤاد، وجاء عنه ذكر الرؤية مطلقاً، وجاء عنه التوقف.

وشيخ الإسلام رحمه الله لا ينتصر للمشهور عند متأخري الحنابلة من أن الرواية عن أحمد مختلفة، بل يقول: إن أحمد كـ ابن عباس، أي: أن الرواية عنه ترجع إلى معنىً واحد، فإن التوقف ليس حكماً يصار إليه، وأن الإطلاق يضاف إلى التقييد، فيكون الثابت عن أحمد إثبات رؤية الفؤاد.

والمشهور في كلام المتأخرين من أهل العلم -كما يذكره القاضي عياض وغيره- إثبات رؤية البصر، بل القاضي عياض يقول: إن جمهور أهل السنة على إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره.

وشيخ الإسلام رحمه الله يقول: إن أكثر أهل السنة على إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج لكنه لا يعني بها الرؤية البصرية، فإنه شاع في كلام أئمة السلف إثبات رؤية الفؤاد التي أثبتها ابن عباس ومن معه من الصحابة.

فإذا قيل: إن جمهور أهل السنة على إثبات رؤية الفؤاد ..

قيل: هذا صحيح، أما إذا قيل -كما هي طريقة بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ومالك -: إن جمهور أهل السنة على إثبات الرؤية البصرية ..

فهذا غلط، فإنه لم يصح عن صحابي هذا التصريح، وكذا جمهور أئمة السلف على هذا المعنى.

أما من حيث الراجح في المسألة: فإن الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة المعراج ببصره؛ لأن هذه مسألة سمعية الدليل فيها يكون مقصوراً على الدلالة القرآنية والدلالة النبوية كسائر مسائل الشريعة وأصول الدين، وليس في القرآن ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره ليلة المعراج، وكذلك ليس في السنة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره ليلة المعراج، وعند عدم الدلالة لا يجوز إثبات شيء لا يعلم، فضلاً عن كون ظاهر القرآن والسنة يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه.

إذاً لم يدل دليل من القرآن أو السنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وعند عدم الدليل يلزم عدم إطلاق القول، أي: لا يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، فضلاً عن كون ظاهر الدلالة القرآنية والنبوية تدلان على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ير ربه ببصره، بمعنى أن ظاهر النصوص يدل على النفي.

ومن الآيات القرآنية الدالة على هذا النفي، قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:١] فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في معراجه لكان الامتنان والإشادة والثناء بذكر رؤية الباري أولى من ذكر رؤية الآيات ..

ولهذا كانت رؤية الباري في الجنة هي أعظم نعيم أهل الجنة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] قال: (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه الكريم) كما في حديث صهيب في الصحيح.

فإن قال قائل: إن الله تفضل عليه بالزيادة فيما بعد.

قيل: هذا خبر عما سيصير له، وأيضاً هذا تكلف في توجيه الآية، ثم إن مما يدل على عدمه ما جاء في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:١٨] وهذا بعد انتهاء الأمر، فإنه لم يذكر سبحانه أنه رأى ربه، بل قال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:١٨] فدل على أنه لم يقع له صلى الله عليه وسلم أن رأى ربه ببصره في معراجه.

إذاً قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:١٨] دليل على أن الذي وقع له هو رؤية الآيات، وهذا هو الذي ورد في السنة كما في حديث أبي ذر وغيره في الصحيحين لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ظهرت لمستوىً أسمع فيه صريف الأقلام) فهذا هو غاية ما وصل إليه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ير ربه ببصره.

أما أن يقال: رآه بفؤاده ..

فهذا لا إشكال فيه.

وكذلك في السنة ما جاء في الصحيح من حديث أبي ذر، عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لـ أبي ذر: (لو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لسألته.

قال: عم كنت تسأل؟ قال: هل رأى ربه؟ فقال: أما إني سألته فقال: رأيت نوراً) وجاء في وجه آخر عند مسلم من رواية عبد الله بن شقيق نفسه أن أبا ذر قال: (سألته فقال: نور ..

أنى أراه؟) إذاً مرةً نقل مسلم من حديث عبد الله بن شقيق عن أبي ذر: (نور ..

أنى أراه؟) ومرةً نقل: (رأيت نوراً)

فقوله: (رأيت نوراً) دليل على أنه لم ير ربه حقيقةً ببصره، وهذا النور -والله أعلم- هو المذكور في حديث أبي موسى الثابت في الصحيح: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فلعل هذا النور -والله أعلم- نور الحجاب.

وأما قوله: (نور ..

أنى أراه؟) فمعناه: أن النور حال دون رؤيته.

ومن أهل العلم من يرى أن الروايتين في صحيح مسلم كلاهما محفوظ، ومن أهل العلم من يرى أن أحدهما ليس محفوظاً، وهذا هو الذي مال إليه الإمام أحمد في بعض أجوبته.

وأما من يستدل بثبوتها بما جاء عن معاذ بن جبل وغيره في المسند وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي في أحسن صورة ...) فهذه كانت رؤيةً مناميةً، وليس المقصود بها رؤية المعراج.

<<  <  ج: ص:  >  >>