[تأثر الجويني بالمعتزلة وميله بالمذهب الأشعري بسبب ذلك]
أبو المعالي الجويني متكلم أشعري من فقهاء الشافعية، وهو ممن مال بالمذهب الأشعري عن طريقة متقدميهم إلى الطريقة الثانية المتأثرة كثيراً بمذهب المعتزلة؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام: إن أبا المعالي الجويني شرب كتب الجبائي -يعني: أبا هاشم الجبائي - فأثرت فيه.
ولهذا مال بالمذهب ميلاً واضحاً، سواء من جهة ما يثبت من الصفات، حيث قصر الصفات المثبتة على السبع، أو من جهة طريقة الاستدلال، أو من جهة الجزم ببعض المسائل حتى في مسائل القدر والتعليل ومسائل أخرى، فإنه استطال بهذا المذهب وتأثر بمذهب المعتزلة.
وإذا قلنا: تأثر بمذهب المعتزلة؛ فإن تأثره على طريقتين -وهذا معنىً ينبغي ملاحظته-:
الأولى: تأثر فوافق المعتزلة في بعض المسائل، كموافقته لهم في عدم ثبوت ما عدا الصفات السبع، وبخاصة نفي الصفات الخبرية.
الثانية: وهي تظهر للمتأمل في كتب الجويني كالشامل والإرشاد واللمع، وهي أنه بالغ في الرد على المعتزلة حتى انتقل إلى قول مباين لهم مباينةً شديدة، لكنه ضمن هذه المباينة تباعد عن مذهب أهل السنة، أي: أنه قصد البعد عن المعتزلة فتضمن هذا القصد عنده بعداً أيضاً عن أهل السنة، وهذا هو الذي وقع فيه أبو منصور الماتريدي الحنفي في كتابه التوحيد، فقد كان أخص مقصوده العناية بالرد على المعتزلة وبخاصة الرد على أبي القاسم البلخي الكعبي من المعتزلة، لكنه بالغ في الرد كما وقع للجويني.
وحينما نقول: بالغ في الرد؛ لا يعني أنه ظلم المعتزلة، لكنه تكلف في طريقة الرد حتى التزم مقالات تخالف حتى ما عرف في مذهب أهل السنة، بل تخالف ما عرف في مذهب الأشعري نفسه؛ ولهذا يمكن أن يقال: إن طريقة الجويني تقارب طريقة الماتريدي.
ومن هنا يتبين أن الماتريدية ليسوا كالأشاعرة، فإن الأشاعرة خير من الماتريدية وبخاصة الأشاعرة الأوائل الذين يسميهم شيخ الإسلام فضلاء الأشاعرة، ويقصد بهم: الأشعري وأئمة أصحابه.
إذاً: الماتريدي يقارب طريقة المتأخرين من الأشاعرة، مع أنه معاصر لـ أبي الحسن الأشعري، لكنه أقرب ما يكون إلى طريقة الجويني وأمثاله من متأخرة الأشاعرة، بل الجويني فيما يظهر أقرب من الماتريدي إلى الحق، فإن الماتريدي فيه نزعة فلسفية واضحة، وفيه تقصد في البعد عن مذهب السلف.
وحينما أقول: تقصد.
فليس المقصود نية، لكنه يطعن في المعروف من مذهب أهل السنة بنفس الطريقة التي كان عليها أئمة المعتزلة الكبار، كقوله: هذا مذهب النوابت والمشبهة والمجسمة ..
إلخ، وفضلاء الأشاعرة كـ أبي الحسن والقاضي أبي بكر بن الطيب لا يقاربون الماتريدي فضلاً عن بعض غلاة الماتريدية، وإن كان في الماتريدية من هو خير من أبي منصور الماتريدي، وأقرب إلى السنة والجماعة.
أما الأشاعرة فإذا كانت المقارنة بين الأشعرية المتكلمين الذين عرفوا بالعلم الكلامي واختصوا به فليس فيهم من هو خير من أبي الحسن الأشعري وأقرب منه إلى السنة والجماعة، أما إذا كانت بين الأشعرية الذين أضيفوا إلى الأشعرية وهم فقهاء أو لهم اشتغال بالحديث فهذا مقام آخر.
[اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن].
وهذه طريقة المتكلمين، وهي طريقة الجويني الأولى.
[وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب].
تقدم أنه لا يصح حمل ما وقع من أبي الحسن الأشعري في كتابه الإبانة من المجملات على أنه تصريح بالرجوع عن مفصلات الغلط، وهذه هي طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فهو يقول: إن الأشعري يقول في الإيمان: إنه التصديق.
ثم قال في بعض المواضع: وإن كان تارةً هو وبعض فضلاء أصحابه يقولون: إنه قول وعمل وقد نص على هذا الأشعري في مقالات الإسلاميين لما ذكر قول أهل السنة فقال: ويرون أن الإيمان قول وعمل، ثم قال: وبكل ما قالوا نقول.
لكن شيخ الإسلام يقول: إن الأشعري وإن أطلق هذا الحرف عن أهل السنة ضمن مجموع كلامه إلا أنه يتأوله.
كذلك لما ذكر الجويني مذهب السلف هنا، قال: ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل -هذا حق- وإجراء الظواهر على مواردها -وهذا أيضاً حق- وتفويض معانيها إلى الرب.
فقوله: وتفويض معانيها إلى الرب مناقض للحرف الذي قبله، وهو قول الجويني أن طريقة السلف هي: إجراء الظواهر على مواردها، فكيف يقول: ويفوضون؛ والإجراء على الظاهر يستلزم الإيمان بأصل المعنى.
كذلك ما الموجب لعدم فهم المعنى حينما يقال: السلف يفوضون المعاني إلى الرب؟ هل الخطاب ليس عربياً؟
هل الخطاب من حيث هو ليس مفهوماً؟
الجواب: لا، الخطاب مفهوم، إذاً لماذا فوضوا؟
إنما قال الجويني وأمثاله من المتكلمين أن السلف فوضوا؛ لأنه هو وأمثاله يعتقدون انتفاء الصفات في نفس الأمر، أي: أنه لا يمكن أن تثبت، فبقي: هل السلف يحددون التأويل أو لا يحددونه ..
هذا محل النزاع، وهذا وهم.
إذاً: يظهر من هذا أن الجويني يتناقض.
وبهذا لا يمكن القول: إن الجويني بقوله هذا: وإجراء الظواهر على مواردها رجع إلى مذهب أهل السنة، إلا إن قصد الرجوع الانتمائي، وهذا لا يهوّن شأنه، فإنه من مقاصد العمل الكبرى، وهو قصد اتباع مذهب السلف، فلا شك أن هناك فرقاً كبيراً بين من ضل عن مذهب السلف وهو يقصد اتباعه، وبين من ضل عنه وهو يدري أنه ضل.
لكن من حيث الحقائق العلمية: الانتساب ليس هو إصابة المذهب، فلابد عند النظر في مقالات المتأخرين من التفريق بين الجهتين؛ ومن الأمثلة على هذا ما تقدم، وهو أن الأشعري من حين ترك الاعتزال إلى آخر أمره لم يتقلد إلا مذهب أهل السنة، ولم يتقلد مذهب ابن كلاب ألبتة، وليس هناك نقل واحد للأشعري في أي كتاب له يصرح فيه أنه يقول بقول عبد الله بن سعيد بن كلاب.
أما كونه متأثراً به فهذا صحيح، ولهذا نجد أن البغدادي يقول: وقال شيخنا عبد الله بن سعيد بن كلاب.
ثم يقول: وقال شيخنا أبو الحسن الأشعري.
فالأشعرية فضلاً عن الأشعري يعلمون أنهم متأثرون بـ ابن كلاب، لكن أن الأشعري التزم طريقته كانتماء مذهبي ..
فلا، أما كحقيقة علمية في مسائل الصفات فقد وافق الأشعري ابن كلاب؛ والدليل على هذا: أن الأشعري في مقالات الإسلاميين فرق بين مقالة ابن كلاب ومقالة أهل السنة والحديث، فقال: ذكر جملة قول أهل السنة والحديث، وقال: ذكر قول عبد الله بن سعيد بن قطان يعني: ابن كلاب، وذكر في موضع آخر جملة قول أصحاب عبد الله بن سعيد بن كلاب؛ فهو يفرق بين المقالتين وإن كان يتوهم -أعني: الأشعري - أن ابن كلاب يوافق أهل السنة في الجملة إلا في مسائل يسيرة.