[لا يلزم لإثبات إجماع السلف على إثبات الصفات النقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة من الصفات]
[بل الذي رأيته أن كثيراً من كلامهم يدل -إما نصاً وإما ظاهراً- على تقرير جنس هذه الصفات، ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة].
فهو لا يلتزم أن ينقل عن كل واحد من الأئمة النصوص الصريحة في إثبات كل صفة من الصفات القرآنية والنبوية؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يلتزم هذا في مسألة من المسائل، فإن الإجماع لا يعلم ويستقر -كما هو معلوم- بهذه الطريقة، ولو كان الإجماع لا ينعقد إلا إذا صرح كل إمام بعينه بذكر كل مسألة بعينها من مسائل الصفات بالاطراد لكان ممتنعاً؛ ولهذا انعقد الإجماع على مسائل مع أنها لم تنقل منصوصة عن كل إمام بعينه، فباب الصفات مثله.
وهذا إنما قاله المصنف لأن بعض المعترضين من المتكلمة يقولون: أكثر هذا الباب إنما صرح به أحمد وأمثاله من أئمة الحديث، وأما فلان وفلان فليس لهم تصريح بهذا الباب.
فالمصنف يقول: إنه ليس هناك إمام من أئمة السلف نقل عنه حرف واحد يدل على نفي شيء من الصفات سواء الصفات الخبرية أو الفعلية أو غيرها، بل المنقول عن جميعهم التصريح بإثبات الصفات، والطعن والرد على المعتزلة، وموافقة الجماعة؛ ولهذا لا يوجد في كتب أهل العلم المعتبرة أحد من أهل العلم حكى الخلاف بين أئمة السلف، بل حتى جماهير المتكلمين من المعتزلة والجهمية والأشعرية يقرون: أن السلف كانوا على قول واحد في هذا الباب.
وإنما زعم الخلاف بعض المتأخرين ممن لا يعتبر قوله في هذا الباب كـ أبي الفتح الشهرستاني وأبي محمد بن حزم؛ فإن أبا محمد بن حزم مع سعة علمه وفقهه إلا أن قوله في باب الصفات ليس معتبراً؛ لأنه اختلط عليه هذا الباب اختلاطاً شديداً، بل كما قال شيخ الإسلام في شرح الأصفهانية: إنه قارب قول المتفلسفة، وقول كثير من المعتزلة في هذا الباب خير من قوله.
فالمقصود: أنه متحقق عند جمهور الطوائف فضلاً عن أهل السنة أن السلف كان لهم قول واحد مطرد في هذا الباب.
فهذا القول الواحد المطرد من المتحقق بالدلائل، وصريح كلام السلف أنه هو إثبات الصفات، وأن هذا المذهب لا يختص بـ أحمد رحمه الله أو غيره من أعيان أئمة الحديث، وإن كان بعض أئمة الحديث كـ أحمد له من الاختصاص بالرد والتقرير ما يقع مثله في سائر مسائل أصول الدين أو حتى مسائل الشريعة.
[بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة; وما رأيت أحدا منهم نفاها.
وإنما ينفون التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه؛ مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضاً.].
وهذا التصريح المتحقق في كلام السلف -أنهم ينكرون على المعطلة من الجهمية والمعتزلة، وينكرون على المشبهة- دليل على أن مذهبهم ليس هو التشبيه، ودليل على أن مذهبهم ليس هو نفي الصفات في نفس الأمر أو نفي شيء منها؛ وبهذه القاعدة -وهي: أن السلف وسط بين أهل التعطيل وأهل التشبيه- يعلم أن ما قرره كثير من متأخري المتكلمين هو من الغلط على السلف.
[كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها.
وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا: هذا جهمي معطل.
وهذا كثير جداً في كلامهم].
وهذا متواتر؛ ولهذا لم يكن كلامهم في تأويلات القوم، بل كان جمهوره يقع في نفيهم للصفات؛ فإن ذم السلف للمعتزلة والجهمية في نفيهم الصفات أظهر من ذمهم لاشتغالهم بمسألة التأويل التي هي تبع لمسألة نفي الصفات.