[وجوب العدل في نقل المقالات وأخذهم بالشريعة لا بحظ النفس]
[وكقول القدري: من اعتقد أن الله أراد الكائنات، وخلق أفعال العباد فقد سلب من العباد الاختيار والقدرة، وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة.
وكقول الجهمي: من قال إن الله فوق العرش فقد زعم أنه محصور، وأنه جسم مركب محدود، وأنه مشابه لخلقه].
هذه كلها ليست لزومات عقلية، بل لزومات حسية، ولهذا قال أهل السنة: إن كل معطل ممثل.
فهذه اللزومات لزومات على ما يعرفونه من حال المخلوقين، والله منزه عن حال المخلوقين.
[وكقول الجهمية المعتزلة: من قال إن الله علماً وقدرةً فقد زعم أنه جسم مركب].
هذا مبني على التشبيه، وإلا من عرف الله حق معرفته، وعرف أن الله ليس كمثله شيء لم يلزم عنده في إثبات صفات الباري سبحانه هذه اللوزام التي هي لوازم لما عرفه من المحدثات المخلوقات.
[وأنه مشبَّه؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز، وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد].
هذا هو دليل الأعراض المشهور عند المعتزلة.
والجوهر الفرد هو الجزء من المادة الذي لا يقبل الانقسام.
[ومن قال ذلك فهو مشبه لأن الأجسام متماثلة.
ومن حكى عن الناس المقالات وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة -بناءً على عقيدته التي هم مخالفون له فيها- فهو وربه والله من ورائه بالمرصاد، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله].
قوله: ومن حكى عن الناس.
أي: أن من يحكي المقالات في هذا المقام فإنه لابد له من العدل؛ لأن ذكر العقيدة هنا أياً كان معتقدها هو من باب الشهادة، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:٨٦] وقد جاء في حديث بريدة في السنن: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة) قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا كان هذا يقع في من يقضي بين الناس في أموالهم ودمائهم، فهو من باب أولى يقع في من يقضي بين الناس في مقاصدهم وعقائدهم التي يدينون الله بها.
ولهذا يجب على طالب العلم أن يعتدل في ذكر أقوال الناس، حتى لو كان القائل من أهل البدع، فإنه لا يزاد في قوله، بل يذكر قوله كما ذكره هو، ولا يفترى على أحد من خلق الله ولو كان من أهل البدع المخالفين لأهل السنة والجماعة.
ولهذا لم يكن من طريقة أهل السنة والجماعة أنهم يؤاخذون غيرهم بالمثل في مسائل الأحكام التي هي من أحكام الجور كما هي طريقة بعض المتكلمين الذين لما ذكروا مسألة التكفير قالوا -كما ذكره بعض الأشاعرة-: نكفر من كفرنا، أما من لم يكفرنا فلا نكفره فإن هذا ليس من باب العدل.
وترى أن الصحابة رضي الله عنهم قد كفرتهم الخوارج كما في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ذلك لم يذهب الصحابة إلى تكفير الخوارج من باب المقابلة.
فهذا الباب لا يؤخذ بحظ النفس وإنما يؤخذ بالشريعة.
ولا يجوز أن يضاف إلى أحد من عباد الله ما هو من الأقوال المخالفة لصريح الكتاب والسنة، إلا إذا علم أنه يقول بهذا القول، وأما أخذُ الناس بالظن فهو كما قال الله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:١٢] فهذا من الإثم الذي لا يجوز أن يعتبر في هذا المقام.
وليس من شرط الإنسان -أقصد: أنه ليس من شرط إيمانه وديانته وصحة مذهبه- أنه يعرف تفاصيل عقائد أعيان الخلق، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وهو إمام هذا الدين، وسيد المرسلين- يقول الله تعالى له: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:١٠١] وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، فقد كان المنافقون الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:١٤٥] ومع ذلك لم يكن جميع الصحابة يعرفون المنافقين بأعيانهم، وهذا معروف في السنة؛ حيث خص النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة رضي الله عنه بأسماء المنافقين.
والمقصد من هذا: أن طالب العلم لا ينبغي له أن يكون من مقاصده الأساسية أن يتتبع فلاناً وفلاناً ماذا يقول وماذا يعتقد، وماذا يقصد وماذا يريد، بل يأخذ الناس بظاهرهم، كما قال عمر رضي الله عنه كما ثبت عنه في صحيح البخاري: إنه لما كان رسول الله كان الوحي ينزل، وأما اليوم فقد انقطع الوحي، وإنَّا آخذوكم بظاهركم.
فهكذا ينبغي لطالب العلم ألا يتقحم ما ليس له به علم.
وبالمقابل: هذا لا يعني أن طالب العلم يعرض عن البدعة أو عن أهلها، فلا يقع له بيان أو رد أو تحذير، فإن هذا مقام آخر، لكن العدل واجب في هذا المقام، وطالب العلم أخص مقاصده أن يشتغل بتحصيل العلم الشرعي من حفظ كلام الله وكلام رسوله والتفقه فيهما، والاشتغال بعباداته الشرعية التي شرعها الله ورسوله ..
هذا هو أخص مقصد لطالب العلم ينبغي أن يلازمه في نفسه وأن يربي عليه غيره.
وأما أن يكون العلم غرضاً للتتبعات فهذا ليس من المقاصد الفاضلة.