[من لوازم القول بنفي العلو أن الله ورسوله لم يبينوا للأمة هذه المسألة]
[فلئن كان الحق ما يقولوه هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصاً وإما ظاهراً، فكيف يجوز على الله تعالى؟! ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم على خير الأمة: أنهم يتكلمون دائماً بما هو إما نص وإما ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهراً حتى يجيء أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل أن يعتقدها].
أي: كيف وسع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان الحق أن الله ليس في السماء، أو أنه ليس له مكان، أو أنه في كل مكان، أو لا داخل العالم ولا خارجه، لو كان الحق مثل هذه العبارات كيف وسع النبي أنه لم يصرح بها يوماً واحداً لأحد من الصحابة، بل كان يصرح بنقيضها، فيقول: (أين الله؟ فتقول الجارية: في السماء).
ويرفع إصبعه إلى السماء في أعظم مجمع حضره النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (اللهم اشهد) وينزل عليه القرآن صريحاً في إثبات العلو ولا يبين لأصحابه أنه على خلاف ظاهره كما تقول المعتزلة .. ؟؟ فلو كان القرآن ليس على ظاهره -كما يقول النفاة- للزم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين للأمة أن القرآن ليس على ظاهره؛ لأن هذا القرآن يسمعه الخاصة والعامة، ويسمعه العرب والعجم، ويسمعه حديث عهد بالإسلام ويسمعه المتفقه ..
وهلم جرا.
وقد تقدم أن المصنف يصر على هذه الإضافة - أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة - لأن لديه جزماً أن العلم الكلامي مأخوذ عن الفلسفة.
" على كل مكلف أو كل فاضل" مقصوده بهذا التنويع الرد على بعض المخالفين الذي إذا أورد عليه: كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين الحق في مسألة العلو؟ وكيف خاطب الناس بخلاف الظاهر؟ وكيف نزل القرآن بخلاف الحق؟
قال: إن هذا ليس اعتقاداً لسائر المكلفين، بل هو لفاضلهم من أصحاب العلم والاختصاص، فيقول المصنف هنا: كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هذا مع أنه إما أن يكون واجباً على سائر المكلفين أو هو الحق في حق الفاضلين من المكلفين؟؟ وهذا بحسب اختلاف الطوائف التي ترى أن هذا هو حق على سائر المكلفين أو حق على فاضلهم.
[لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم].
على مجرد عقولهم لأنه يقول: إننا إذا سألناهم: من أين تحصل نفي العلو؟ قالوا: بدلالة العقل، فهم لا يقولون بدلالة النقل، بل يقولون: بدلالة العقل، والنقل يعارضه ويحتاج إلى تأويل.
وعلى هذه الطريقة يلزم أن يكون النقل الذي هو الكتاب والسنة زاد الخلق ضلالاً؛ لأن العقل الصحيح -على ظنهم وزعمهم- يقود إلى نفي العلو والقرآن جاء بإثبات العلو، ولهذا احتاج -حتى عندهم- النقل عند المعتزلة وأمثالهم إلى التأويل؛ ولهذا يبين المصنف أن لازم هذا أن يكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم في باب الصفات؛ وهذا لأن النصوص هنا عارضت المحصلات العقلية -على زعمهم- والتي يزعم المخالفون للسلف أنها هي الحق، فيكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم.
[وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير].
لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير؛ لأن النفي حُصل بدلائل العقل، والنقل عارض العقل، واحتاج النقل إلى التأويل؛ إذاً لو كان العقل وحده هو الحاكم لكان أسلم؛ مما يدل على بطلان هذا وامتناعه، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الكتاب هدىً للناس، ووصف نبيه وهو أفضل الناس عقلاً وفطرةً بقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:٥٢] وقال سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ} [يوسف:٣].