[استلزام مقالة التعطيل للتعطيل والتمثيل]
[أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات؛ فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثلوا أولاً وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى].
فلهذا وجدت نزعة التشبيه عند المعتزلة في باب الصفات من جهة أنهم لم يفهموا من الصفات إلا التشبيه، ولهذا كان من قواعد المعتزلة الكلامية: أن الأجسام متماثلة، وأن كل من اتصف بصفة فإنه يكون جسماً والأجسام متماثلة.
وهذه قاعدة ليس لها اعتبار، والإشكال أنهم لم يعتبروا الأشياء إلا بما عرفوه في قانونهم الأرضي، ومن المعلوم أن هذا القانون الذي يشاهدونه ليس لازماً في عالم الممكنات، ومن باب أولى ألا يكون لازماً بين الخالق والمخلوق، كما ذكر شيخ الإسلام في التدمرية المثلين لما قال: نعيم الجنة ونعيم الدنيا، فقد اشتركت في الأسماء ولم يلزم من ذلك الاشتراك في الحقائق أو الماهيات في نفس الأمر.
فهذا القانون الذي وعوه هو قانون انحداد ما يعرفونه من الممكنات، ومن هنا جاءوا
اللوازم التي ادعوا أنها تلزم من إثبات الصفات، ومثال ذلك أنهم يقولون: إن الغضب غليان دم القلب -كما ذكر المصنف عن طائفة من الأشاعرة- فهذه اللوازم والتفسيرات للغضب أو لغيره من الصفات مبنية على مشاهدة المخلوقات، وهذا اللازم هو لازم لما يناسبه من المخلوقات، وإلا ليس هو قانوناً عقلياً.
فإنه إذا قيل: العقل يستلزم أن يكون الغضب غليان دم القلب ..
إلخ، وهذا لا يليق بالله، قيل: اللازم ليس عقلياً، إنما لازم حسي مشاهد.
ولهذا لو أخذنا الجسم وقيل: إن هذا الجسم إذا أطلق يستقر، ولا يسقط إلى أسفل.
لقال قائل: إن هذا مخالف للعقل.
وهو -في حقيقته- ليس مخالفاً للعقل، لأن الضابط العقلي عند الناس الآن أن هذا الجسم إذا أطلق سقط إلى الأسفل، لكن هذا ليس لازماً عقلياً، إنما هو لازم حسي مشاهد، ولهذا إذا تجاوز هذا الجسم بعض المحيطات الأرضية التي يثبت فيها هذا النوع من الحركة ثم أطلق فإنه قد يصعد أو قد يذهب يميناً أو شمالاً أو قد يثبت في مكانه.
وهذه من القواعد التي عني بها شيخ الإسلام رحمه الله، وهو: أن العقل لا يعارض النقل، وأن الشبهات التي رأوها لوازم هي لوازم حسية، ومن هنا يقول: إن المعطلة ممثلة؛ لأن اللوازم التي يدعون أنها لوازم عقلية إنما هي لوازم مثالية حسية مشاهدة.
إذاً: فرق بين الضرورة العقلية والضرورة الحسية، فإن الضرورية الحسية لا قيمة لها؛ لأنها عبارة عن قانون داخل محيط الحس، وقد يكون هناك محيط حسي آخر لا يثبت فيه ما يراه الإنسان ضرورةً.
ومن الأمثلة التي توضح هذا أكثر: أنه لو أخذت إنساناً وغمرته في الماء؛ فإنه يموت، وسبب موته هو انقطاع النفس، لكن لو أخرجت سمكاً من الماء وتركته ساعة لمات، وسبب موته انقطاع النفس، فالإنسان داخل الماء ينقطع نفسه والسمك العكس.
وبهذا يتبين أن الإنسان قد يتصور بعض الاطرادات التي يظنها عقلية وهي -في حقيقتها- حسية.
وكفائدة عامة هنا: حتى الشبهات التي يذكرها الملاحدة تجاه دين الإسلام ككون الإنسان في قبره يعذب، فيقولون: كيف يعذب وهو مطمور بالطين والتراب ..
إلخ؟ كيف يكون حياً يعذب ..
إلخ؟ هذا كله راجع إلى قانون حسي شاهدوه، وهو أن الإنسان لابد أن يأكل ويشرب حتى لا يموت، لكن هذا ليس لازماً عقلياً؛ بل هو قانون حسي مشاهد، ولهذا الملائكة -كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله -: صمط لا يأكلون ولا يشربون.
فهذا المعنى ينبغي لطالب العلم أن ينتبه له في الرد على أصناف المخالفين حتى الكفار، وهو: أن الضرورة العقلية ليست هي الضرورة الحسية، فإن الضرورة الحسية يمكن أن تتغير في محيط حسي آخر، فضلاً عن غير ذلك.
[فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً، وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم].
أي: إلا ما يعرفه مما يسميه ضرورة عقلية، وهو في نفس الأمر ضرورة حسية، فهو يقول: لو كان فوق العرش لكان مساوياً، أو لكان محتاجاً ..
إلخ؛ لأنه يشاهد حال الإنسان وهو على السرير أو الدابة أو السفينة أو غير ذلك، فهو يعتبر الشواهد الحسية ويريد أن يمثل صفات الله بها، هذا هو معنى قول شيخ الإسلام أن المعطل ممثل.
[كان على أي جسم كان.
وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم].
وهذا اللازم -أي: هذا اللازم الحسي- الذي زعم المخالفون أنه لازم عقلي، هو لازم حسي وليس لازماً عقلياً.
[أما استواء يليق بجلال الله تعالى ويختص به؛ فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يلزم من سائر الأجسام، وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع.
فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً ..
وكلاهما محال، إذ لا يعقل موجود إلا هذان.
أو قوله: إذا كان مستوياً على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كليهما مثَّل، وكليهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين].
وهذه فائدة، وهي: أن ما صح من اللوازم التي يزعمون أنها لوازم فهو لازم حسي، وهذا معنى قول شيخ الإسلام رحمه الله: إن كل معطل ممثل؛ لأنه استدعى لوازم حسية مثالية جسمانية محدثة، وأوجب أن تكون مطردة في الصفات التي أثبتها.