[الطريق الحق في باب الأسماء والصفات]
[والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها: القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى فوق عرشه، ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله -بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك- دلالةً لا تحتمل النقيض، وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠].
ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي من الليل قال: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) وفي رواية لـ أبي داود أنه كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك.
فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين انفتح له طريق الهدى، ثم إن كان قد خبر نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب، وعرف أن غالب ما يزعمونه برهاناً هو شبهة].
الطريق الأول: هو أن يدعو الله أن يوفقه للحق ..
وهذا من باب ما يشير به المصنف رحمه الله إلى أن المتكلمين غلب عليهم مسألة الانتصار لمذاهبهم، ولم يكثروا من الالتفات إلى مسألة التبين في هذا الحق الذي زعموه حقاً، فكثرة الالتفات إلى الانتصار تعمي الناظر في هذا الباب عن تحقيق الحق ومعرفته، ولهذا تراهم -أعني: المتكلمين- مقلدةً محضةً في هذا الباب، يقلد بعضهم بعضاً، ومن خالف في هذا فإنه ينزع إلى طريقة أخرى، فإن أبا المعالي الجويني لما خالف سلفه من الأشعرية نزع إلى طريقة قوم سلفه خير منهم وهم المعتزلة ..
وهلم جرا.
كذلك الرازي لما خالف أصحابه في كثير من المسائل نزع إلى كثير من كلام ابن سينا وأمثاله ممن كلامهم شر من كلام أصحابه ..
وهلم جرا.
فتعيين المصنف لمسألة الالتفات إلى الشرع من حيث العلم -أي: النظر في نصوص الكتاب والسنة- ومن حيث القصد بالإخلاص والطلب -الإخلاص لله سبحانه، والطلب أي: طلب التوفيق منه- ولهذا كان من أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه: أنه يدعو بهذا الدعاء الذي ذكر المصنف.
ولهذا ينبغي لطالب العلم في المسائل التي يقع فيها اضطراب -أحياناً- أو اختلاف شديد أن يلتفت إلى مقام الإخلاص والطلب، ولا يفرض أن هذا الاضطراب يُعرف الحق فيه من غيره بمحض الاختصاص والالتفات إلى السبب العلمي، فإن النظر في الكتب والمراجعة ليس بالضرورة أنه يفيد توفيقاً، وإن كان سبباً شرعياً صحيحاً، لكن ليس بالضرورة أنه يختص بنفسه ويستقل بنفسه في التحصيل.
ولهذا لابد من التفات طالب العلم في مقام الاختلاف -وبخاصة في مقام الاضطراب في بعض القضايا- إلى مسألة غير مسألة النظر والمراجعة، وهي: مسألة الإخلاص والطلب، أي: أنه يطلب من الله سبحانه ويسأله أن يوفقه للخير، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا.
ثم قال المصنف: ثم إن كان قد خبر نهاية إقدام المتفلسفة لأنه أشار إلى شيء من ذلك فيما نقله عن الرازي والشهرستاني والجويني وغيرهم، وعرف أن القوم ليس لهم علم في هذا الباب محقق لا عقلي ولا شرعي.
ثم قال: وعرف أن غالب ما يزعمونه برهاناً هو شبهة.
يقصدون بالبرهان القياس اليقيني، وذلك لأن المنطق الأرسطي قسم القياس إلى خمسة أقسام:
١ - القياس البرهاني، وهم يعدونه أصدق القياسات، وأنه يقيني النتيجة.
٢ - القياس الجدلي.
٣ - القياس الخطابي.
٤ - القياس الشعري.
٥ - القياس السفسطي.
فزعم كثير من المتكلمين أن دلائلهم برهانية ..
يرد عليه بأن هذه دعوى، وليس كل مبطل سمى قوله برهاناً يجب أن يكون في نفس الأمر برهاناً، كما أن من سمى قوله إصلاحاً من المنافقين لم يلزم في نفس الأمر أن يكون مصلحاً: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة:١١ - ١٢] فهذا المقام -وهو مقام العلم والعمل- لا يؤخذ بالدعوى والألفاظ؛ ولهذا قال المصنف عن برهانهم: هو شبهة أي: شبهات وأوهام من العقل.
ومما يدل على هذا أن المتفلسفة كـ ابن رشد -مثلاً- وصف أدلة المتكلمين بأنها بريئة من البرهان، وأنها أقاييس جدلية كما ذكر ذلك في رده على أبي حامد الغزالي، فهو وابن سينا وأمثالهما من المتفلسفة يطعنون في دلائل المعتزلة والمتكلمين كالأشعرية وغيرهم، ويصفونها بأنها دلائل جدلية لا تفيد يقيناً وقطعاً.
وبالمقابل: فإن المتكلمين من المعتزلة والأشعرية وأمثالهم طعنوا في أدلة المتفلسفة كـ ابن سينا وابن رشد وأمثالهم، ووصفوها بأنها أدلة ليست يقينية.
ثم إن أبا محمد بن حزم يطعن في أدلة الطائفتين -في أدلة المتكلمين وأدلة المتفلسفة- ويزعم أن ما يقرره في باب الصفات هو المقول بالقياس البرهاني.
فترى أن كل طائفة تخالف السلف في هذا الباب تدعي أن قولها هو القول البرهاني، وأن قول الطائفة الأخرى التي هي من جنسها في هذا العلم: كالمتكلمين بعضهم مع بعض، والمتفلسفة بعضهم مع بعض، يرى كل طائفة منهم أن قول مخالفيهم من أصحابهم ليس قولاً برهانياً.
ولهذا لما ذكر ابن رشد أصناف الناس ذكرهم على هذا الوجه، فقال: إن أخص الطوائف الكلامية هي الأشاعرة، وأما المعتزلة فلم يصلنا شيء من كتبهم في هذه الجزيرة -يعني: الأندلس- ولكن الظن أنهم من جنس الأشعرية.
ثم انتهى إلى أن دلائل الأشعرية ومثلها دلائل المعتزلة -على فرضه- دلائل جدلية، وأن الحق البرهاني مخصوص بقول الحكماء -يعني: المتفلسفة-.
ثم مال إلى أن ما قرره ابن سينا ليس برهانياً، إنما هو عرفان وإشراق وتصوف في كثير من الموارد.
وبهذا يظهر أن الطعن يتردد بين الطوائف في مسألة البرهانية واليقينية.
ومن الأمثلة على ذلك أيضاً: أن ابن حزم سفه أدلة المتكلمين والمتفلسفة، ثم ذكر بعض الأدلة وسماها أدلة برهانية عقلية؛ مع أن هذا الدليل عند التحقيق مأخوذ إما من المتكلمين، أو من المتفلسفة، أو مبني على القانون الأرسطي في المنطق الذي يشترك في معرفته والأخذ به كثير من أهل الفلسفة وأهل الكلام، بل إن ابن حزم وصف بعض الأدلة بالبرهانية، وهي دلائل قد قررها قبله علماء الأشاعرة، لكنه غير في بعض ألفاظها وفي بعض ترتيبها، وإلا الدليل من حيث الحقيقة العلمية هو نفسه الدليل الذي ذكره بعض أئمة الأشعرية أو المعتزلة.
فمن هنا: يعرف أن كثيراً من هذا المقام مقول بالدعوى وليس بالتحقيق العلمي.