للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تسمية أهل الكلام لأهل السنة حشوية ونوابت ..]

[وأهل الكلام يسمونهم حشوية ونوابت وغثاء وغثرا

إلى أمثال ذلك، كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم تارة مجنوناً، وتارةً شاعراً، وتارةً كاهناً، وتارةً مفترياً.].

هذا ليس حكماً في سائر أهل الكلام، وإنما هو قول غلاة المتكلمين، وإلا فمن المتكلمة من لا يسمي أهل السنة كذلك، كفضلاء متكلمة الأشعرية كـ أبي الحسن وفضلاء أصحابه.

فالمقصود بأهل الكلام هنا: أي غلاتهم، كمتكلمة الجهمية، والمعتزلة، وغلاة متكلمة الماتريدية، وغلاة متكلمة الأشعرية.

وأهل الكلام: ليسوا طائفة مختصة كما أن المعتزلة مدرسة مختصة، والأشاعرة مدرسة مختصة.

بل هي إضافة إلى هذا العلم -علم الكلام-.

وهم أصناف في الناس: فمنهم الجهمي، ومنهم المعتزلي، ومنهم الماتريدي ..

إلخ.

وهذا العلم علم مولد في المسلمين، بمعنى أنه لم يعرف قبل الإسلام كالفلسفة، ومن هنا صار ابن سينا وأمثاله لا يعدون في المتكلمين، بل يعدون في المتفلسفة؛ لأنهم نقلة للفلسفة ولم يشتغلوا بالرد عليها.

أما المتكلمون فإنهم في الجملة ممن رد على المتفلسفة من الإسلاميين -أو من انتسب للإسلام- أو من قبلهم، فمن أغراض المتكلمين التي قصدوها في علمهم هذا: الرد على كثير من مقالات الفلاسفة كالقول بقدم العالم وغيره؛ ولهذا صنف كثير من المتكلمة في هذا، فكان لـ واصل بن عطاء بعض التصانيف في هذا، ولـ أبي الهذيل العلاف، وإبراهيم بن سيار النظام، ولـ أبي علي الجبائي ..

وأمثال هؤلاء من أئمة المعتزلة تصانيف في هذا الباب، وكذلك أئمة الأشعرية صنفوا في الرد على المتفلسفة، كالمصارعة للشهرستاني، وتهافت الفلاسفة لـ أبي حامد الغزالي، وكذلك تصنيف القاضي أبي بكر بن الطيب ..

وأمثالهم في هذا الباب.

ولربما صح أن يقال: إن ردهم في الجملة مما يحمدون عليه من جهة أنهم قصدوا إبطال الكفر المحض، وإن كان كثير من ردهم قاصراً عن التحقيق، بل إنهم في كثير من ردهم التزموا كثيراً من التعطيل لمسائل الصفات وغيرها بسبب ما ادعوه من الرد؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهم يحمدون في الجملة فيما قصدوا إبطاله من مقالات الفلاسفة الكفرية المناقضة لدين المسلمين كالقول بقدم العالم ونحوه، قال: وإن كان يقع في ردهم ما هو من التقصير والقصور، بل والتزام بعض الحقائق المناقضة لما علم مجيء الرسل به ضرورة، كالقول في إثبات صفات الرب وأمثال ذلك ..

فهذا مما يعتدل القدر فيه في هؤلاء المتكلمين.

وينبه إلى أن هذا العلم المشهور في تعريفه -كما هو في كتب المتكلمين أنفسهم، أو فيمن صنف في المعارف وحال التاريخ كـ ابن خلدون في مقدمته- أنه الاستدلال على العقائد الإيمانية بالدلائل العقلية، بل إن ابن خلدون وهم وهماً أشد من هذا، حيث قال: إن علم الكلام هو علم يقصد به الاستدلال على عقائد أهل السنة بالدلائل العقلية ..

وهذا كحقيقة علمية مجردة غلط أساسي عند ابن خلدون؛ لأن المؤسس لهذا العلم لم ينتسب أصلاً للسنة والجماعة، وهم علماء الجهمية والمعتزلة، والأشاعرة تبع لهم، سواء من حيث الحقيقة العلمية أو من حيث التاريخ، فإن إمام الأشعرية -وهو أبو الحسن الأشعري - متأخر عن جمهور متكلمة المعتزلة والجهمية.

فهذا العلم أصلاً لم ينشأ في قوم ينتسبون للسنة، فضلاً عن كونهم يحققونها ويصيبونها.

وهو علم -أعني: علم الكلام- مذموم عند أئمة السلف، وهذا متواتر عنهم، والذي ذمه ليس هم علماء الحديث فقط، بل ذمه غيرهم من أئمة الفقهاء كذلك، حتى إن كل إمام من الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - نقل عنهم أحرف كثيرة في ذم هذا العلم، بل حتى عن أصحابهم كـ محمد بن الحسن وأبي يوسف واللذان هما أخص أصحاب أبي حنيفة.

ولهذا: تأول المتكلمون الذين انتسبوا لهؤلاء الأئمة في الفقه هذا الذم لما عرفوه، كما هو واضح في كلام أبي حامد الغزالي، حيث قال: وأما ما جاء عن الشافعي -وهو لابد أن يلاحظ كلام الشافعي، أي: لا يتجاوزه، بحكم أنه ينتسب إليه، فهو شافعي في الفقه وأصوله، بل إنه يزعم أن طريقته في أصول الدين لا تناقض طريقة الشافعي - من ذم علم الكلام فإنما لما فيه إذ ذاك من الألفاظ المجملة الحادثة كلفظ الجوهر والعرض وأمثالها، وكان هذا مناسباً لما هم عليه من ظهور السنة.

أما في من بعدهم فلما اختلط الحق مع كثير من مقالات المناقضين لدين الإسلام أوجب أن يكون هذا العلم مما يقصد إلى بيانه وضبط الاعتقاد به، وإن كان فيه مفسدة استعمال الألفاظ الحادثة المبتدعة كلفظ الجوهر والعرض.

ثم ذكر الغزالي مثالاً يستدل به على تحصيله، فقال: كما إن لبس ثياب الكفار منهي عنها، وهي من التشبه المنهي عنه في الشريعة.

لكن إذا صال الكفار على مصر من أمصار المسلمين، ولم يكن دفع شوكتهم إلا بالغدر بهم بلبس ثيابهم -حتى يستطيع بعض العين من المسلمين أن يدخل في صفهم أو يعرف أخبارهم- فلبس ثيابهم هنا هو مصلحة شرعية يقصد إليها من قبل الشارع.

هذا التقرير من أبي حامد لو صح مبناه لكان دقيقاً وصحيحاً علمياً، لكن مبناه على أن السلف -كـ الشافعي وغيره- إنما ذموا علم الكلام لما فيه من الألفاظ الحادثة فقط، وهذا خطأ، فإن السلف ذموا هذا العلم لما اشتمل عليه من المعاني الباطلة، وإن كان هذا الذم متضمناً ذم الألفاظ، ولهذا قال شيخ الإسلام في درء التعارض: وذم السلف لعلم الكلام إنما كان لما اشتمل عليه من المعاني الفاسدة، وإن كان يدخل في هذا الذم ما فيه من الألفاظ الحادثة.

وقال في موضع آخر: وذم السلف لعلم الكلام لما فيه من المعاني أعظم من ذمهم لما فيه من حدوث الألفاظ.

إذاً: ذم السلف هذا العلم الكلامي لغرضين:

الأول: لما اشتمل عليه من المعاني الباطلة.

الثاني: لما فيه من الألفاظ المبتدعة.

ومن هنا كان جواب الغزالي عن أحد الغرضين فقط، وهو غرض الألفاظ، أما غرض المعاني فإن الغزالي لم يستطع الجواب عنه ولا يستطيع أن يجيب عنه؛ لأن قضية المعاني قضية لزومية لا يمكن الانفكاك عنها ولا التعليل بخلافها.

وإنما قرر شيخ الإسلام رحمه الله أن السلف ذموا علم الكلام لما اشتمل عليه من المعاني الباطلة؛ لأنك ترى هذا حقيقةً، فإنه لو لم يكن في هذا العلم إشكال إلا من جهة الألفاظ لما تضمن حقائق علمية تعارض الحقائق القرآنية، ولكانت النتيجة العقلية أن يتضمن أحرفاً وألفاظاً ليست هي الألفاظ الشرعية القرآنية النبوية فقط، لكن هذا العلم أوجب نفي الصفات، والقرآن -كما قرره أئمة السنة والجماعة- جاء بإثبات الصفات، بل كما نص عليه أئمة الكلام أنفسهم من المعتزلة وغيرهم لما قالوا: تعارض العقل والنقل ..

فإنهم قصدوا بالعقل الدلائل الكلامية.

وبهذا يتبين أن هذا العلم معارض لما جاء في الكتاب والسنة، حتى بشهادة أصحابه الذين قرروا قانون التعارض بين العقل والنقل، وكان جواب علماء السنة: أن العقل ليس معارضاً للنقل؛ وهذه قاعدة مطردة: أنه ليس هناك حكم شرعي في أي رسالة نبوية -وبخاصة في أكمل الشرائع وهي الشريعة المحمدية- يعارض شيئاً من الحقائق أو القوانين العقلية، ومن ظن التعارض فقد وقع له وهم يناسب عقله المعين، ولهذا لا يمكن أن يتفق العقلاء في أمة من الأمم أو طائفة من الطوائف على دلائل عقلية -زعموها- معارضة لأخبار أو تشريعات نبوية.

وترى أن الكفار الذين كفروا بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منتهى حالهم يقولون: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:١٠] فقولهم: لو كنا نسمع أي: الحكم الشرعي أو النبوة الشرعية والاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعوهم إلى التوحيد والإيمان، أو نعقل أي: لو استعملنا حتى العقول لانقدنا إليه؛ ولهذا قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:١٧٩] فقدم العقل على السمع والبصر، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:٤٦].

فترى دائماً أنه في القرآن عند ذكر المعتبرات في التحصيل يقدم العقل على غيره من الحواس؛ لأنه أقوى القوى الإدراكية وأنظمها، ولهذا تميز به الإنسان عن بقية الحيوان، فإن البهائم تسمع وتبصر لكنها لا تعقل، وهذه تقرر ولا سيما في هذا العصر كثيراً؛ لكثرة من يتكلم بدعوى أن العقل يعارض النقل، التعارض بين الإسلام في كذا والقضية العقلية ..

ليس هناك أي مسألة خبرية أو تشريعية يتعارض فيها الخبر الشرعي مع العقل أو الحكم الشرعي مع العقل، إلا أن يكون هذا الشيء الذي قيل إنه شرعي؛ ليس شرعياً في الحقيقة، كأن يكون حديثاً موضوعاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فيظن من يظن أنه حديث وهو يعارض قوانين عقلية منضبطة.

أما ما علم أنه شرعي من جهة ثبوته ودلالته فإنه لا يمكن أن يعارض شيئاً مما انضبط في العقل، بل يكون العقل هنا وهماً وليس عقلاً صحيحاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>