بعد هذا التقرير في هذا المقصد الخامس يدخل المصنف في المقصد السادس في رسالته، ويكاد أن يأخذ هذا المقصد ما يقارب نصف الكتاب، وهو عبارة عن نقولات ينقلها المصنف ليبين بها أن الإثبات ولا سيما لغير الصفات السبع التي استقر عليها المذهب الأشعري في آخر أمره مذهب شائع في كلام أئمة السلف، سواء الأئمة الأربعة أو غيرهم، وفي كلام المحققين من الأشعرية كـ أبي الحسن الأشعري وأئمة أصحابه المتقدمين، وفي كلام طوائف من المتصوفة، وفي كلام كبار الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة، فتكون النتيجة أن هذا المذهب ليس مذهباً مختصاً بالحنابلة، وإنما هو مذهب شائع عند السلف، وقد قرره وأشار إليه خلق من المتكلمين.
وحينما نقول: قرره خلق من المتكلمين.
لا يعني أنهم قرروه على نفس التفصيل الذي كان عليه السلف، وإنما مقصود شيخ الإسلام هنا: أن هؤلاء المتكلمين، ومن نقل عنهم من بعض المتصوفة، وحتى بعض الفقهاء يحصلون نتيجة: أن هذا المذهب ليس مختصاً بالحنبلية، وإن كان تقريرهم قد يكون فيه بعض النقص أو الغلط.
ولهذا لما انتهى رحمه الله من هذه النقولات قال: وإن كان ليس كل من نقلنا عنه فإنا نعتبر قوله على التمام.
ولهذا تجده نقل عن القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، ونقل عن أبي المعالي الجويني كشهادة، بل تجد أن نقله عن الجويني يكاد يكون آخر نقل؛ وذلك لأن أبا المعالي الجويني يعد من أحذق الأشعرية في تقرير المذهب، وقد مال بالمذهب الأشعري عن طريقة متقدمي أصحابه، وهذا له أسباب علمية كثيرة، لكن كان من أخص الأسباب: حصول الخلاف بين الأشعرية والحنابلة على وجه الخصوص بطريقة -إن صح التعبير- الاصطدام الصريحة.
وهذا يولد سؤالاً: هل كان قبل ذلك هناك توالف بين الأشعرية والحنبلية؟
الجواب: كان يقع شيء من ذلك، ولا سيما في زمن القاضي أبي بكر الباقلاني مع التميميين من الحنابلة، فإن التميميين أبا الفضل التميمي وأبا الحسن التميمي كانوا مائلين إلى مذهب فضلاء الأشعرية كما يعبر عنه شيخ الإسلام فيقول: كان التميميون من الحنابلة يميلون إلى مذهب فضلاء الأشعرية كـ القاضي أبي بكر وأمثاله.
وكان الباقلاني نفسه متوالفاً مع حنبلية عصره من التميميين، حتى إن القاضي أبا بكر وقد كان في نهاية أمره مالكي المذهب في الفقه إلا أنه كان يوقع بعض أجوبته إلى الأمصار بـ محمد بن الطيب الحنبلي، ولهذا كان بعض الحنبلية كـ أبي بكر عبد العزيز ينسبون أبا الحسن الأشعري إلى متكلمة الحنبلية؛ لأن الأشعري كان يظهر الانتحال لعقيدة الإمام أحمد.
هذا التلخيص في هذه النقولات ينتهي منه شيخ الإسلام إلى هذه النتيجة.