[على ماذا يترتب الإجماع]
من المعلوم أن الإجماع لا ينعقد إلا مع نص، وهذا يقرره الأصوليون، وإن كان بعض المتكلمين من الأصوليين ومن وافقهم من الفقهاء الذين تكلموا في الأصول يعارضون في هذا، إلا أنه لا شك أن هذه المعارضة غلط محض، وبإجماع السلف؛ فإن الإجماع يدل على ثبوت النص في المجمع عليه.
لكن يبقى أنه إذا انعقد إجماع العلماء فهل يلزم بالضرورة أن هذا الإجماع يترتب على دليل واحد أم قد يختلف دليله؟
أي: إذا تحقق الإجماع سواء في مسائل أصول الدين أو في الفقهيات فهل يعني هذا أن الإجماع ترتب على دليل معين، بمعنى أن هؤلاء المجتهدين جميعهم نظر في هذا الدليل المعين -كآية معينة من القرآن أو حديث معين من السنة- فصار اتفاقهم على فهم دلالته هو المحصل للإجماع؟
يقال: أما إذا كان القول في أصول الدين فإن علماء السلف إذا أجمعوا على مسألة من المسائل المعتبرة في أصول الدين فهذا يدل على تحقق الإجماع في الدليل المعين فيه، وإن كانت المسألة قد يستدل عليها بدليل قد يدخله النزاع.
مثال هذا: أجمع السلف رحمهم الله على أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات القيامة وفي الجنة، وعلى هذا دلائل من القرآن والسنة أجمع السلف على دلالتها على هذه المسألة، لكن هناك دلائل من القرآن استدل بها بعض الأئمة على هذه المسألة وإن كان غيرهم ينازعهم في الاستدلال كقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:٣٥] فكلمة مزيد استدل بها بعض الأئمة على أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة، مع أن هذه الكلمة ليست نصاً في الرؤية، ولكنهم لما وجدوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسر الزيادة في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] بأنها النظر إلى وجه الله كما في حديث صهيب عند مسلم، افترضوا هذا الحرف في المحل الآخر من القرآن لتقارب السياق.
ورأى بعض العلماء أن هذا ليس بالضرورة يدل على ثبوت الرؤية.
فهنا كان الاختلاف في دليل معين، والاتفاق في دليل معين آخر.
وبهذا يظهر أنه ليس هناك خلاف بين السلف في الرؤية، ومن ادعى أن أهل السنة اختلفوا في رؤية الله لاختلافهم في مثل قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:٣٥] قيل له: هذا اختلاف في دليل معين، والاختلاف في الدليل المعين لا يستلزم الاختلاف في المدلول، إلا إن كان هذا المدلول لا يثبت إلا بهذا الدليل، أما في الرؤية فهناك أحاديث متواترة، وصريح من القرآن في غير ما آية هي معقد الإجماع.
أما إذا انعقد الإجماع في مسألة فقهية فهنا لا يلزم أن يكون موجب الإجماع نصاً معيناً، بمعنى أنه يحصل الإجماع في مسألة فقهية، ولكن استدلال مالك رحمه الله بظاهر من القرآن، واستدلال الشافعي بظاهر آخر من القرآن، واستدلال أبي حنيفة بحديث من السنة، فتكون النتيجة واحدة، ولكن مأخذها من النصوص متنوع، فيكون الإجماع لم ينعقد من جهة دليل معين واحد ..
هذا الذي يقع غالباً في المسائل الفقهية، وإن كان قد يقع في المسائل الفقهية دلائل نبوية يطبق الأئمة على الاستدلال به.
والنتيجة من هذا: أن الإجماع لا يحصل إلا بنص، سواء كان نصاً معيناً أو نصاً متنوعاً.
وهذه الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع هي المعتبرة في مسألة أصول الدين.