[الأدلة من السنة]
[وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة].
هنا ينبه في طريقة شيخ الإسلام رحمه الله أنه قد يستدل ببعض الأحاديث التي اشتهر تضعيفها عند الحفاظ المتأخرين، ولكن لا يقع لـ شيخ الإسلام رحمه الله أنه يستدل بحديث انضبط تركه عند أئمة السلف؛ وهذا لأنه يعتبر استدلال بعض أئمة السلف بمثل هذه النصوص مسوغاً لهذا الاستدلال؛ ولهذا ليس بالضرورة أنه يلتزم الصحة هنا، ولكنه إذا رأى أن الأئمة استعملوه في استدلالهم فإنه قد يسلك ما يستعمله الأئمة.
ولهذا تجد أنه استدل ببعض الأدلة أحياناً، لكنه لما سئل عنها على وجه التخصيص مال إلى تضعيفها.
فالقصد: أنه لا يستدل بحديث انضبط ضعفه تماماً، وإنما قد يستدل ببعض الأحاديث التي فيها بعض الكلام؛ ومع ذلك هذا النوع من الأحاديث المسألة لا تنبني عليه من كل وجه، فيكون ضعفه دليلاً على ضعف المسألة؛ لأن المسألة ثابتة بنصوص متواترة.
وشيخ الإسلام رحمه الله إذا استدل بمثل هذا النوع من الأحاديث، وإن كان قد يتردد فيها من جهة السند أحياناً لكنه يجزم بأن معناها حق، فيستدل بها موافقةً لمن استدل بها من المتقدمين.
وقد يطعن في بعض الأحرف من الأحاديث حتى مما في الصحيح -في صحيح مسلم بخاصة- أو في بعض الأحاديث المشتهرة الصحة، وله سلف في هذا من متقدمي الأئمة، وهذا ككلامه في حديث التربة، وكلامه فيما جاء في حديث ابن عباس المتفق عليه، وإن كانت هذه الرواية تفرد بها مسلم، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يرقون ولا يسترقون) فقوله: لا يرقون هي من أفراد مسلم، وقد ذكر شيخ الإسلام أن هذا الحرف غلط، واستدل لتغليطه بطرق.
القصد: أنه يستعمل أحياناً مثل هذا النوع، فهو يعتبر مسألة الاعتبار في الاستدلال بمسائل الموافقة لأصول الشريعة وعموم النصوص، أو يعتبر التضعيف أحياناً بهذا الاعتبار إذا لم يكن الحديث أو حرف منه موافقاً للأصول العامة؛ فإنه ينتهي إلى ضعفه وإن لم يشتغل بسنده كثيراً.
[مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار: (فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم) وفي الصحيح في حديث الخوارج: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً).
حديث الخوارج متواتر، فقد رواه مسلم من عشرة أوجه، روى البخاري طائفةً منها، وقال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه.
[وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: (ربَنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمةً من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا الوجع).
هذا الحديث متكلم فيه، لكن كما تقدم لم ينضبط ضعفه ورده.
[قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء ..) وذكره، وقوله في حديث الأوعال: (والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وقوله في الحديث الصحيح للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال: اعتقها فإنها مؤمنة)].
قوله: في الحديث الصحيح للجارية مع أن الحديث في مسلم، وقد تقدم أن المصنف لا يلتزم الاصطلاح المشهور عند متأخري الحفاظ دائماً.
[وقوله في الحديث الصحيح: (إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) وقوله في حديث قبض الروح: (حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله تعالى) وقول عبد الله بن رواحة الذي أنشده للنبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره من شعره فاستحسنه وقال: (آمن شعره وكفر قلبه) حيث قال:
مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالنباء الأعلى الذي سبق الناس ... وسوى فوق السماء سريرا
شرجعاً ما يناله بصر العين ... ترى دونه الملائكة صُورا]
استدلاله بقول أمية بن أبي الصلت يبين به أن هذا كان متقرراً حتى عند العرب في جاهليتها؛ لأنه من مسائل الربوبية.
وقد قصد العرب الذين كفروا بالقرآن إلى منازعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوتي وفي نبوته بطرق يعلم جمهورهم أنها باطلة، كقولهم: إنه ساحر، ومجنون، وهذا القرآن إنما يعلمه بشر
إلى غير ذلك، ومع ذلك لا نرى أحداً من الجاهليين -مع أنهم من أجمد الناس عقلاً- قصد إلى دعوى أن هذه الصفات التي ذكرها القرآن في حق الله تتعارض مع العقل، وهذا يدل على أن العقل الذي عناه المتكلمون في قولهم: إنها معارضة للعقل.
ليس هو العقل الاعتيادي البشري الذي هو عقل غريزي في الناس، إنما مقصودهم بالعقل: معلومات عقلية فلسفية.
فإن أحداً من الجاهليين الذين قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر أو مجنون مع أنهم يعلمون فساد ذلك، لكن لأنهم لم يجدوا عليه مدخلاً، ولو كان عقل أحدهم يهتدي إلى أن شيئاً من الصفات -مع أنهم يسمعون القرآن فيه وصف الله بالرحمة والغضب والسمع والبصر والعلو والقدرة
إلى غيرها- الفعلية واللازمة، ولم يتكلم أحد من المشركين، بل ولا حتى اليهود الذين كانوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو كانوا عنده في المدينة أو بجواره في المدينة في الطعن في شيء من الصفات المذكورة في القرآن، بحجة أنها تنافي كمال الله أو تخالف العقل.
وهذا استدلال فاضل، وهو من طرق أهل السنة للاستدلال على الصفات.
وقد تقدم أن الجاهليين كانوا يذكرون هذه المقاصد العامة؛ لأنها مقاصد ربوبية؛ ولهذا ترى أن بعض علماء السنة كـ شيخ الإسلام لما قسم التوحيد قال: إنه توحيد خبري وتوحيد طلبي إرادي.
والتوحيد الخبري يدخل فيه توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فأصله باب محكم حتى في العقول والفطر -أعني باب الأسماء والصفات- وإنما كان الجاهليون ينازعون في مسألة توحيد العبادة والطلب.
وبهذا يتبين أن ما وقع فيه المتكلمون إنما هو من أحكام الفلسفة وليس من أحكام العقل، ولو كان العقل يدل على شيء من هذا التردد أو الاعتراض لكان من أسبق الناس إليه الجاهليون أو اليهود أو الذين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وكتب إليهم، فإنه صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أنس في الصحيح- كتب إلى كل جبار يدعوه إلى الله، ولم يُنقل أن أحداً ممن كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه وفده أو بلغته دعوته من المشركين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم اعترض على ما يتعلق بمسألة المعرفة الإلهية في صفات الله سبحانه وتعالى؛ ولو كان في شيء من العقل ما يقتضي ذلك لذكروه.
ومن ذلك أن طرفة بن العبد كان يثبت مسألة المشيئة لله في أفعاله، مع أن المعتزلة لما جاءت قالت: إن الله لم يشأ أفعال العباد.
مع أن قضية أن الله شاء أفعال العباد قضية فطرية، حتى الجاهليون كانوا يقرون بها، ولهذا يقول طرفة:
فلو شاء ربي كنت قيس بن عامر ... ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وزارني ... بنون كرام سادة لمسود
إذاً: كان يثبت أن ما تحصل له من الأحوال هو على مشيئة الله سبحانه وتعالى.
وبهذا يتبين أن هذه المسائل -خاصة مسائل الصفات ومسائل القدر- هي مسائل -في الجملة- فطرية عقلية.
[وقوله في الحديث الذي في المسند: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) وقوله في الحديث: (يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب!).
وهذا الحديث في الصحيح من حديث أبي هريرة.