[ليس كل من قال بعدم تكفير تارك الصلاة يعتبر من المرجئة]
لو قيل: هل الذي لا يكفر تارك الصلاة وقع في قول المرجئة؟
نقول: فيه تفصيل، فإن كان معتبره في عدم تكفيره أن الصلاة عمل والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان كما هي طريقة أبي حنيفة وأصحابه، فلا شك أن هذا من مقالات المرجئة، وقد عرف حماد ومن معه بأن قولهم من مقالات المرجئة، وذمهم السلف عليه، وذم السلف لمقالة حماد متواترة، وليس هو قول سائر أهل الكوفة؛ فقد ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام أعيان الناس من الأئمة الكبار الذين صرحوا أن الإيمان قول وعمل، ونقل عن أعيان الكوفيين أكثر مما نقله عن غيرهم؛ لأن القول بالإرجاء عن حماد شاع في بعض الكوفيين، فحتى لا يظن أن علماء الكوفة قد أطبقوا عليه بيّن أبو عبيد وأمثاله من الأئمة الكبار -كالإمام أحمد في كتاب الإيمان - أن هذا قول شائع في الكوفيين، وأن قول حماد ليس قولاً لسائر الكوفيين.
أما من يقول: إن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، أو يزيد وينقص، ولا يكفر تارك الصلاة؛ لأنه لم يظهر له أنه كافر بدلائل معينة مفصلة من الدلائل الشرعية، فهذا القول وإن كان مرجوحاً فيما يظهر -والله أعلم- إلا أنه ليس قولاً بدعياً وليس قولاً منكراً ولا قولاً من أقوال المرجئة ولا أثراً من آثارهم.
فإنه كيف يقال: إنه قول من أقوال المرجئة، وأثر من آثارهم، أو هم الذين أحدثوه وقد قال به ابن شهاب ومكحول الشامي ومالك بن أنس والشافعي في الصحيح عنه وأبو ثور وجماعة من الكبار؟!
وقد كان ابن شهاب رحمه الله من أعلم الناس بالسنن والآثار، ومن أشد الناس على المرجئة، فلا يمكن أن يكون قد تأثر بمقالات المرجئة.
وإن كان يشكل على هذا بعض الشيء ما ذكره إسحاق بن إبراهيم من أن الإجماع قد انعقد على كفر تارك الصلاة، لكن نقول: إن الإجماع الذي ذكره إسحاق فيه بعض التردد، إلا إن قيل: إنه إجماع سكوتي، فهذا قد يسلم به، أما أنه إجماع قطعي كإجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل ..
فليس كذلك.
أما إن كان إجماعاً سكوتياً فهذا قد يسلم، ولا إشكال فيه في الجملة باعتبار أن طائفة من الصحابة حفظ عنهم أن ترك الصلاة كفر، ولم يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف هذا.
إذاً: من أقوى الأدلة بعد الاستدلال بظاهر قوله تعالى في آية براءة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:٥] وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:١١] والاستدلال بحديث بريدة وجابر بن عبد الله، بعد هذا يقال: أخص دليل بعد ذلك إطباق الصحابة، حيث شاع هذا القول فيهم -أي: أن ترك الصلاة كفر- ولم ينقل عن أحد منهم منازعة في هذا.
كذلك يقال في أثر عبد الله بن شقيق: كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفراً غير الصلاة.
فهو في الجملة على ظاهره، لكن ترى أنه إجماع سكوتي.
وكلمة إجماع سكوتي كلمة مصطلحة، قد يناظر أو ينازع في ثبوتها أو في تقريرها من جهة الاصطلاح، لكن من حيث المدلول هي متحققة، أي: أنه يفرق بها بين الإجماع الذي انضبط انضباطاً تاماً وبين الإجماع الذي نقل عن بعض الأعيان ولم يذكر عن غيره خلافه.
ونلاحظ من هذا أن الأئمة الكبار رحمهم الله في استدلالهم أحياناً ينزعون إلى بعض الدلائل من الكتاب أو السنة مع أنه يحفظ لبعض الصحابة قول لم يعرف له مخالف، وإن بعض الأئمة الكبار كذلك -ولا سيما الإمام أحمد وبعض أئمة الحديث- يصيرون إلى الأقوال التي للصحابة ولم يحفظ لهم فيها مخالف.
إذاً: المنقول عن الصحابة سواء سمي إجماعاً أو لم يسم إجماعاً هو عند التحقيق دليل قوي على أن تارك الصلاة كافر؛ ولهذا يقال: إنه كافر بظاهر الكتاب والسنة، وظاهر مذهب الصحابة، وهو الذي عليه الجمهور من السلف.
وننبه هنا إلى أن الترجيح شيء، والقول بأن تارك الصلاة كافر بالإجماع، وأن المخالفة فيه -أي: القول بأنه ليس كافراً- قول من أقوال المرجئة شيء آخر، بل هو مرتقىً صعب، فإن من يقول: إن الذي لا يكفر تارك الصلاة متأثر بالمرجئة أو دخلت عليه شيء من أقوالهم؛ يلزمه أن يجعل مالكاً وابن شهاب والشافعي ومكحول الشامي، بل الإمام أحمد -كما جاء في رواية عنه قدمها بعض كبار الحنابلة المحققين المعروفين في التحقيق في مذهب السلف، وإن كانت رواية مرجوحة عند التحقيق، والجمهور من الأصحاب رحمهم الله على أنه كافر- يلزمه أن يجعل هذا مطرداً عليهم.
إذاً: إذا كان الإجماع انعقد وتم لزم أن مخالفه يكون ممن ضل سبيل المؤمنين، وأنه مبتدع بمخالفته، سواء أضيف إلى المرجئة أو جعل مبتدعاً بمقالته، وإذا كان كذلك -أي: فرضنا صحة الإجماع- حرم الاجتهاد بخلاف الإجماع، بمعنى أنه لا يجوز تقليد مالك ولا تقليد الشافعي ولا تقليد ابن شهاب ..
إلخ، أي: حرم تقليد المخالف ولو كان إماماً، وحرم الاجتهاد في المسألة ولو كان المجتهد له إمام من الكبار ..
وهذه كلها مرتقيات صعبة.
ولا يمكن الاعتماد على نقل ذكره إسحاق بن إبراهيم رحمه الله، وإن كان إماماً مجمعاً على إمامته، فإنك إن استدللت بالإجماع الذي يذكره إسحاق بن إبراهيم رحمه الله فماذا تفعل بمخالفة ابن شهاب ومالك؟ وابن شهاب بإجماع أهل العلم أوثق وأضبط للسنن والآثار، وأدرى بآثار الصحابة من إسحاق بن إبراهيم، ولو كان الصحابة رضي الله عنهم قد انضبط لهم إجماع تام قطعي كإجماعهم في مسألة أن الإيمان قول وعمل وأمثالها لما تجشم ابن شهاب ومالك والشافعي مخالفة الصحابة، خاصة وأن لهم اختصاصاً في ذلك، فإن لـ ابن شهاب اختصاصاً بإجماعات الصحابة وآثارهم، وكذلك الشافعي يعرف مقامه في الإجماع أيضاً وعنايته به ..
وهلم جرا.
إذاً: هذه مسألة ينبغي العدل فيها، فيقال بأن تارك الصلاة كافر بظاهر الكتاب والسنة وهو مذهب الصحابة، ويقال عن المخالف فيه: إنه خالف الصواب وخالف الراجح، وأن قوله غلط، ولكنه لم يصل إلى أن يكون من أهل الإرجاء أو من أهل البدع أو نحو ذلك.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو من هو في التحقيق يرى أن هذه مسألة فيها نزاع بين الأئمة، وقد ذكر عن الإمام أحمد فيها الرواية المشهورة، وهي أنه كافر، والرواية الأخرى وأثبتها عن أحمد أنه ليس كافراً.
إذاً: ينبغي العدل والاعتدال في مسألة تارك الصلاة، وإن كانت حجج المخالفين الذين لا يكفرون تارك الصلاة ضعيفة، وكما قال شيخ الإسلام: ما من دليل يستدلون به إلا وهو يتناول الجاحد كما يتناول التارك.