[القاعدة الثامنة]
الثامنة: وهي قياس الأولى في حق الله.
وهي أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به ..
وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:٦٠] وقد سماه من سماه من أهل السنة لما ذكروا الموقف من القياس بقياس الأولى.
فإن الكلام صفة كمال في المخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه من حيث هو صفة، وإن كان بعض المخلوقين قد يستعمل هذه الصفة في الكفر، والدليل على أنه كمال: أن الله أبطل ألوهية العجل لكونه ليس متصفاً به: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:١٤٨] فدل على أن عدم اتصافه بالكلام دليل على نقصه، وأن الإله الحق يتصف بالكلام، وكذلك في قول إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:٤٢] حيث استدل إبراهيم على بطلان ألوهية الأصنام بكونها لا تسمع ولا تبصر.
فبما أن الكلام والسمع والبصر والإرادة والقدرة كمالات في المخلوق فالخالق أولى بها، ولكنها في حقه ليست كالصفات التي يتصف بها المخلوق.
وقلنا: لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ لأن بعض الصفات هي كمال في المخلوق لكنه كمال إضافي وليس كمالاً مطلقاً، أي: أنه كمال بشري، أي: أن الصفة عند تجريدها لا يمكن أن يقال عنها: إنها كمال، لكنها صارت كمالاً باعتبار حال بني آدم.
إذاً الكمال الذي إذا اتصف به المخلوق فالخالق أولى به هو: ما كان في المخلوق من الكمال المطلق، وليس المقصود بالمطلق التام، وإنما الذي هو كمال حتى في مقام التجريد، كصفة الإرادة.
فإن الإرادة صفة كمال، سواء أضيفت إلى أي شيء.
وحتى لا تفهم هذه القاعدة خطأ توضح الفرق بين الكمال المطلق والكمال الإضافي في المخلوق؛ حيث إن بعض الناس إذا سمع هذه القاعدة قال: الشخص الذي يأكل ويشرب أكمل من الشخص الذي لا يأكل ولا يشرب، بل الذي لا يأكل ولا يشرب يكون فيه علة؛ إذاً: الأكل والشرب صفة كمال!
فنقول: الأكل والشرب كمال إضافي وليس كمالاً مطلقاً، بمعنى أنه عند التحقيق يعتبر نقصاً ..
لماذا؟ لأن طبيعة تركيب الإنسان الجسمانية ينبني بقاؤها على مسألة الأكل فلو لم يأكل ويشرب لانتهى، وهذا نقص في بني آدم، ولهذا كانت الملائكة كما يقول شيخ الإسلام: كانت الملائكة صُمْد.
وفي قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:٢] في أشهر التفسيرين عند السلف أن الصمد: السيد، ولكن جاء في رواية عن ابن عباس صححها شيخ الإسلام ونصرها وصوبها وقال: إنها لا تعارض الرواية الأخرى عن ابن عباس والقول الآخر عند السلف أن الصمد: هو الذي لا جوف له.
وقال: إن هذا كمال يتصف الله به؛ لأن التجويف نقص.
ولهذا ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة لما خلق الله آدم تركه في الجنة ما شاء أن يتركه فجعل إبليس يطوف به -أي: يدور حوله- فرآه أجوف -أي: مجوف الداخل، بمعنى أنه يحتاج لقانون الأكل والشرب والشهوة ..
الخ- قال: فلما رآه أجوف؛ عرف أنه خلق خلقاً لا يتمالك؛ ولهذا يأتي الشيطان الإنسان من هذه البوابة كثيراً.
فالمقصود: أن الأكل والشرب وإن قيل: إنها كمال في الإنسان إلا أنه كمال إضافي، أي: أن حقيقتها نقص من حيث التكوين الخلقي الأساسي، وفرق بين الكمال الذي هو كمال حتى في حال تجريده وإطلاقه، وبين الكمال الإضافي.