للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[علاقة مذهب الخلف بمذهب المتفلسفة]

[فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف].

تقدم أن شيخ الإسلام ابن تيمية ضمن هذا الكتاب إشارات دقيقة جداً، فهو يقول: الخلف من المتفلسفة.

مع أن المتفلسفة أظهر في الضلال من المعتزلة، والذين قالوا هذه المقالة لا يقصدون بالخلف المعتزلة، إذاً هم من باب أولى لا يقصدون المتفلسفة، وإنما يقصدون أصحابهم من متكلمة الأشعرية وأمثالهم الذين انتسبوا للسنة والأئمة، وعظموا مذهب السلف في الجملة.

فكيف يقول شيخ الإسلام هنا: فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة؟

نقول: لم يفضل طريقة المتفلسفة في مسألة الإلهيات بالتمام أحد من علماء الأشاعرة حتى الغلاة منهم، بل طعنهم وتصنيفهم في الرد على طوائف المتفلسفة مشهور، من ذلك ما صنفه وكتبه القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني، وكذلك الشهرستاني في مصارعة الفلاسفة، وأبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة، ومحمد بن عمر الرازي له تصنيف، وإن كان الرازي هو أخص الأشعرية تعلقاً ببعض مقالات المتفلسفة، ولا سيما مقالات الحسين بن عبد الله بن سينا، فإنه ينقل عنه كثيراً، وإن كان يعترض عليه، لكنه تارةً يصوب بعض مقالاته؛ وهو مشغوف به.

لكن لأن الغلط في باب الإلهيات، وبخاصة في باب الأسماء والصفات الذي محصله نفي صفات الله بالجملة عموماً كما هو مذهب الجهمية والمعتزلة، أو نفي ما هو من الصفات ولو الصفات الفعلية وحدها -مركب على الدلائل الفلسفية؛ فباعتبار أن هذه المذاهب نتيجة من نتائج الفلسفة وصف المصنف مذهب الخلف بأنه مذهب المتفلسفة، ولهذا قال: من المتفلسفة ومن حذا حذوهم.

لأن الجهمية أخذوا دليلهم من المتفلسفة، وكذلك المعتزلة، بل حتى الأشعرية؛ فإنهم أطبقوا على نفي ما يسمونه حلول الحوادث وهي الصفات الفعلية، وهذا الدليل نفسه دليل فلسفي، بل هو عند التحقيق نفس المذهب، ولكنه مقرب للشريعة كثيراً، وفيه أحرف من الإسلام كثيرة، لكن أصل المادة فيه مادة أرسطية، وقد كان لـ أرسطو طاليس كلام في مسألة الوجود الإلهي، فقد كان يثبت العلة والمعلول، والمحرك الذي لا يتحرك، وإنما تتحرك المعلولات على طريقة الترقي والصدور حركة شوقية ..

وهذا المذهب هو الذي استعمله ابن سينا وأمثاله.

فمذهب الأشاعرة الذي انتهى إلى امتناع اتصاف الله سبحانه وتعالى بصفة فعلية -أي: صفة تتعلق بالقدرة والمشيئة- هو نفس مفهوم نفي الحركة الذي كانوا أرسطو ينفيه ويقول: المحرك الذي لا يتحرك؛ فإن مقصود أرسطو بقوله: لا يتحرك ليس نفي الحركة الجسمانية بالضبط، فإن الحركة بالمفهوم الفلسفي العام هي: كل ما يتعلق بالقدرة والمشيئة.

فقول أرسطو: لا يتحرك.

هو نفس المحصل الذي دخل على الأشعرية في نفيهم لكل الصفات الموجبة لتعلق الشيء بفعل الرب ومشيئته وقيام الأفعال به؛ ولهذا لم يثبتوا إلا الصفات اللازمة، أما الصفات الفعلية فقد اتفقوا على نفيها سواءً فوضوها أو تأولوها.

فحتى المذهب الأشعري عند التحقيق مولد -لا نقول: منقول؛ حتى يكون العرض دقيقاً- من أحد المذاهب الفلسفية.

<<  <  ج: ص:  >  >>