[إثبات متقدمي الأشاعرة للصفات الخبرية]
[والله يعلم أني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن من كلام السلف، ما رأيت كلام أحد منهم يدل -لا نصاً ولا ظاهراً، ولا بالقرائن- على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر].
يشير المصنف هنا إلى الصفات الخبرية؛ لأن المتأخرين من متكلمة الصفاتية ينفون الصفات الخبرية كالوجه واليدين وأمثالها، وهذا هو الذي قرره أبو المعالي الجويني في كتبه والأشاعرة من بعده، وكذلك أبو منصور الماتريدي الحنفي مع تقدمه على هؤلاء ومقارنته للأشعري في الزمان، فهؤلاء نفاة للصفات الخبرية مع أن أبا الحسن الأشعري وأبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وأبا بكر بن الطيب الباقلاني، وكذا ابن فورك -في المجرد - يقع في كتبهم إثبات ما هو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين.
والمتأخرون من الأشاعرة ومن يوافقهم في هذا الباب -باب الصفات الخبرية- يقولون: إن مقصود الأشعري وأمثاله بهذا الإثبات هو إجراء اللفظ على ظاهره، مع اعتقاد أن الصفة في نفس الأمر منتفية.
ولهذا قال المصنف رحمه الله: والله يعلم أني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم ما يدل -لا نصاً ولا ظاهراً ولا بالقرائن- على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر.
لأنه ليس النزاع مع المتأخرين -من متكلمة الصفاتية ومن هو على طريقتهم- في إطلاق ألفاظها أو سياقاتها القرآنية، إنما النزاع في إثبات الصفة في نفس الأمر؛ ولهذا قرر بعض متأخري الأشعرية أن الأشعري في كتبه التي ذكر فيها الوجه واليدين وأمثال ذلك أنه يطلق ألفاظها ويتوقف في تعيين المراد بها، ولكنه لا يجعل المعنى المتبادر مقصوداً فيها ..
وهذا من جنس طريقة التفويض التي أضافوها إلى السلف، مع أن هذا التقرير ليس صحيحاً؛ لأن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا ينصون على إبطال قول المعتزلة الذي ينفي هذه الصفات، ويصرحون بإثباتها تصريحاً بيناً، ولو كان الخلاف بينهم وبين المعتزلة في تعيين التأويل لما اشتغلوا بهذا التقرير، وظاهر في كتب الأشعري أنه لم يشتغل كثيراً بمسألة الفرق بينه وبين المعتزلة من حيث تعيين التأويل، لأن هذه ليست هي المسألة الأصل، بل المسألة الأصل: ثبوت الصفة أو عدم ثبوتها.
إذاً: باب الصفات الخبرية هو باب مختص؛ لأن متأخري المتكلمين نفوه تبعاً لقدماء المتكلمين من المعتزلة وأمثالهم، وخالفوا طريقة سلفهم من أئمة متكلمة الصفاتية، فضلاً عن مخالفتهم لطريقة السلف.
ثم لو فرض جدلاً: أن الأشعري لم يقصد تحقيق الإثبات فيها؛ فإن النتيجة: أن الأشعري قد غلط في باب الصفات الخبرية، وغلطه في هذا ليس مما يصار إليه، بمعنى: أن المعتبر في لزوم الاتباع ليس هو اختصاص الأشعري أو غيره، وإنما هو ما كان عليه جماعة السلف رحمهم الله الذين نص الأشعري في كتبه على أنه تبع لهم، وأنه قاصد لمذهبهم.
وقد تواتر في كتب السنة عن أئمة السلف رحمهم الله إثبات الصفات الخبرية على ظاهرها، والقول في هذه الصفات -كالوجه واليدين وأمثالها- كالقول في بقية الصفات؛ فأي لازم يدعيه المتأخرون من متكلمة الصفاتية على مثبتة الصفات الخبرية هو نفسه اللازم الذي قرره وادعاه أئمة الجهمية في سائر الصفات -الصفات الخبرية وغيرها معها-.