[حكم تارك الزكاة]
أما مسألة الزكاة ففيها تفصيل:
فإن ترك الزكاة جحداً لوجوبها فهذا بالإجماع كافر، وهذا لا يختص بالزكاة بل كل ما ظهر وجوبه وجحد وجوبه كفر الجاحد.
وإن تركها ولم يقاتل عليها كإذا كان شخصاً بمفرده تركها ولم يحتسب عليه أصلاً -يعني: لم يُعلم به أصلاً- فهذا التارك في كفره نزاع بين السلف.
أما إن تركها وقاتل عليها كأهل الشوكة والمنعة كما وقع في زمن الصديق رضي الله عنه فهؤلاء كفار مرتدون على الصحيح من قولي العلماء، وهو الذي عليه الجمهور من السلف، بل جزم بعض المحققين من الكبار كـ أبي عبيد وغيره أنه إجماع للصحابة، وشيخ الإسلام يميل إلى هذا، وإنما قلت: في أصح قولي العلماء؛ باعتبار ما ذكره المتأخرون، ومعلوم أن إجماع المتقدمين إذا انعقد لا يلتفت إلى قول المتأخرين.
أما جمهور المتأخرين من أصحاب الأئمة الثلاثة فإنهم يرون أن هؤلاء بغاة، وأنهم ليسوا من أهل الكفر والردة، ولكن هذا قول باطل، بل الصواب: أن الذين منعوا الزكاة وقاتلوا على منعها كفار، وهو ظاهر مذهب السلف، ولم ينضبط عن أحد من أعيان السلف التصريح بأنهم ليسوا كفاراً، وقد حكاه أبو عبيد إجماعاً للصحابة.
وقد كان مالك بن أنس وبعض الكبار من أئمة المدينة والعراق والشام لعظم فقههم يفرقون بين تارك الزكاة المقاتل عليها والذي تركها باختصاصه ولم يقاتل، فإن مالكاً رحمه الله لا يكفر تارك الزكاة، ولكنه إن قاتل عليها كفره ..
وهذه النتيجة تفيد أنه لا يسوى بين المسألتين: مسألة الترك وحده، ومسألة الترك مع المقاتلة.
إذاً: من ترك وقاتل فهذا كافر في ظاهر مذهب الصحابة والسلف، ولم ينضبط خلاف صحيح فيه.
أما إن تركها ولم يقاتل فهذا فيه نزاع مشهور، وعن أحمد رحمه الله فيها روايتان محفوظتان، بل قال الإمام أحمد في رواية: ليس شيء من العمل تركه كفر إلا الصلاة وهذا يدل على أنه يميل إلى أن تارك الزكاة ليس كافراً.
كذلك أثر عبد الله بن شقيق الذي رواه الترمذي وغيره، وهو العمدة في هذا يدل على هذا؛ لأنه قال: ما كان أصحاب محمد يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة مما يدل على أن الزكاة لا إجماع فيها عند الصحابة من جهة تركها، أما إن تركها وقاتل فهذه مسألة أخرى، ومن رام التسوية بينهما فقد خالف طريقة السلف، فإن السلف كانوا يفرقون.
وقد كان طائفة من كبار أئمة السلف يكفرون تارك الزكاة مطلقاً، قاتل ولم يقاتل، وهذا قول لا ينكر، وهو رواية معروفة في مذهب أحمد رحمه الله، ولكن فرق بين أن يقال: إن في المسألة خلافاً، وبين أن يقال: إن في المسألة إجماعاً.
إذاً: من يكفر تارك الصوم حتى ولو صلى وزكى، ويكفر تارك الحج حتى ولو صلى وصام وزكى، أي: يرى كفر تارك أي واحد من المباني الأربعة، فقوله هذا قول لا ينكر، فإن عليه طائفة من السلف كما نص عليه شيخ الإسلام، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، وقال به من الكبار الحكم بن عتيبة وأمثاله من أصحاب مالك، ويحكى قولاً لـ سعيد بن جبير، بل روي عن ابن عباس أنه يقول بهذا المذهب، وإن كان تحقيق القول في الصحابة يحتاج إلى تأمل، لكن المتحقق أنه قول مأثور عن طائفة من السلف فلا ينكر، وإن كان من حيث الرجحان ليس راجحاً.
فينبغي لطالب العلم: أن يحقق الفرق بين القول الذي يقول: إنه راجح، وبين القول الذي يقول: إنه إجماع.
إذاً: الراجح أن تارك الصلاة كافر، وأن تارك الزكاة المقاتل عليها كافر، وهاتان المسألتان عليهما عامة السلف، بل مسألة الزكاة لم يذكر عن كبار أئمة السلف فيها خلاف كمسألة ترك الصلاة، وإن كانت الصلاة بلا خلاف أعظم من الزكاة، لكن بالمقاتلة يختلف الأمر؛ ولهذا إن قتل على ترك الصلاة فإنه يقتل ردةً بالإجماع، وإن كان بعض الشافعية والمالكية حكوا أنه يقتل فاسقاً، بل وذكر هذا بعض الأصحاب من الحنابلة رحمهم الله، لكن لا شك أن هذا غلط، بل هذا ممتنع كما قال شيخ الإسلام؛ ولهذا كان مالك والشافعي -مع أنهم لا يكفرون تارك الصلاة- يرون قتله.
فالمقصود: أن تارك الصلاة كافر عند الجماهير من السلف، وهو ظاهر الكتاب والسنة وظاهر مذهب الصحابة، وتارك الزكاة المقاتل عليها كافر في ظاهر مذهب الصحابة أيضاً، وحكاه طائفة من الكبار إجماعاً خلافاً لجمهور المتأخرين، أما تارك الزكاة الذي لم يقاتل عليها ففيه نزاع مشهور بين أعيان أئمة السلف كـ أحمد وغيره، كذلك تارك الصوم والحج فيه نزاع بين السلف، والجمهور على عدم كفره.
فهذا هو أخص ما يقال في هذه المسألة التي تارة يقع فيها خفض أو رفع، فترى من يجزم بأن تارك الصلاة لا يكفر، ويقول: إن هذا هو المتحقق من دلائل الكتاب والسنة، أو من يقول: إن تارك الصلاة يكفر، وهذا إجماع قطعي ضروري ..
فكلا هذين القولين فيه بعض التقدم.
فهذا مما يتعلق بمسألة أبي حنيفة رحمه الله.
وفي تاريخ بغداد وفي السنة لـ عبد الله بن أحمد بعض الكلام في أبي حنيفة، فهذا ينبغي أن نعرض عنه، فإنه لم ينضبط له مذهب مخالف للسلف إلا في مسألة الإيمان، أما ما نقل عنه في مسألة القدر والصفات ..
وما نقل عنه في مسألة القرآن ففي الجملة لم ينضبط عنه، وقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله في بعض المواضع بأن أبا حنيفة في مسألتي الصفات والقدر على المعروف عن السلف.
[وفي النقل عن أبي حنيفة تصريح أن من وقف في مسألة العلو فإنه كافر].
وهذا دليل على أن أبا حنيفة رحمه الله من كبار الأئمة المحققين في مسائل الصفات.