[كيفية ضبط مذهب السلف]
وهنا سؤال: بم يضبط مذهب السلف؟
من المعلوم أنه إذا قيل: إن هذا القول مذهب للسلف لزم من ذلك أن ما يخالفه يكون بدعة، ولهذا ينبغي أن لا يقال عن شيء ما بأنه مذهب للسلف إلا إذا كان إجماعاً لهم، أما إذا اختلفوا فيقال: اختلف الأئمة أو اختلف السلف، وإن كان الخلاف الفقهي ينبغي أن يعبر عنه بالقول: اختلف الأئمة أكثر من أن يقال: اختلف السلف؛ فإن هذا الحرف إنما يستعمل في مسائل الإجماع كما يظهر في كتب أهل العلم المحققين.
وقد أشار شيخ الإسلام إلى كيفية ضبط مذهب السلف، فقال: واعتبار مذهب السلف الذي هو مذهب لازم يجب اتباعه بدلالة القرآن والحديث هو ما علم إجماعهم فيه، قال: ومعرفة الإجماع تقع بنقل علماء الإسلام الكبار بأن هذا إجماع للسلف، أو بتواتر مقالاتهم في هذه المسألة ولا يحفظ لأحد منهم مخالفة.
فهذان طريقان يعرف بهما إجماع السلف:
الأول: التنصيص من كبار العلماء المتقدمين أو المحققين من المتأخرين على أن هذا إجماع للسلف.
الثاني: تواتر المقالة عن السلف، ولم يحفظ لأحد منهم فيها مخالفة.
وقد أراد شيخ الإسلام بهذا درء مسألة تحصيل مذهب السلف بطريق الفهم؛ ولهذا قال رحمه الله: وأما من تحصل له فهم في الكتاب والسنة فقال: إن هذا مذهب السلف؛ لأن السلف عنده لا يخرجون عن دلالة القرآن والسنة، فهذه طريقة يستعملها من يستعملها ممن انتحل مذهب السنة والجماعة من متأخري المتكلمين، ومن قلدهم من الفقهاء وغيرهم ..
وهذا التنبيه غاية في الأهمية، وهو أن مذهب السلف لا يصح تحصيله بالفهم.
وهذا قد وقع في كلام كثير من الفقهاء وفي كلام كثير من المتكلمين، ويقع اليوم قدر كثير منه بين بعض طلبة العلم، حيث نجد أنهم يعينون مسائل ويقولون: هذا مذهب للسلف.
مع أن المسألة فيها نزاع بين كبار أئمة السلف؛ لكونها مسألة فقهية.
إذاً: لابد أن يعتبر مذهب السلف بالأصول الثلاثة، فكل ما أضيف إلى مذهب السلف، ولا يوجد عليه دليل من الكتاب والسنة والإجماع فإنه لا يعد من مذهب السلف الذي هو إجماع لهم، وإنما قد يكون محل خلاف بين أهل السنة والسلف أنفسهم؛ لأنه إذا انضبط أن هذا مذهب للسلف لزم أن يكون صواباً محضاً، وما يقابله يكون بدعةً وضلالاً محضاً على حد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
فكل ما قابل مذهب السلف فهو بدعة وضلالة؛ ولهذا لا تُعين مسألة أنها مذهب للسلف إلا إذا عُلم أنها إجماع لهم، أما إذا كانت اختياراً لبعض كبار أئمتهم ويخالفهم أئمة آخرون من أئمة السلف أنفسهم فإنه مهما كان ظهور الدليل فيها من الكتاب والسنة ينبغي أن يتوقف عن نقل الإجماع فيها، بمعنى أنه إذا قيل: إن هذا مذهب للسلف فإن هذا بمنزلة القول: بأن هذا إجماع.
وينبه هنا إلى أنه إذا ظهر دليل المسائل التي ليست إجماعاً من الكتاب والسنة -ولو خالف من خالف فيها من بعض علماء السنة الكبار- فإنه يجب الاتباع لدلالة الكتاب والسنة، وربما صح في بعض المقامات الإنكار حتى في المسائل التي هي محل خلاف، وإن كان هذا لا يطرد، فإن بعض الأئمة قد يجزم في مسألة بحكم يعلم أنه غلط؛ لكون الدليل لم يبلغه مثلاً، أو لسبب آخر كما يذكره شيخ الإسلام في رسالته رفع الملام.
إذاً: الإنكار ليس محصوراً بالضرورة في مسائل الإجماع، بل حتى مسائل الخلاف قد يقع أحياناً وجه لإنكار بعض الأقوال، ولو قال بها بعض الكبار من أهل العلم، وإن كان هذا لا يطرد.
القصد: أن تحقيق مذهب السلف معتبر بثبوت إجماع صريح لهم، أما المسألة التي ليس فيها إجماع فلا يصح أن يقال فيها: إن هذا مذهب للسلف؛ ولذلك لا يصح وصف القول المخالف في مسألة فيها شيء من النزاع، ولو كان المرجح يرجح أن قوله هو الراجح بدلالة القرآن والسنة مثلاً أو بدلالة أحدهما بأنه بدعة، كذلك لا يوصف القول المخالف بأنه بدعة إذا كان القائل به من أعيان الأئمة كأئمة الصحابة وأئمة التابعين وأمثالهم؛ ولهذا نجد أن الصحابة لم يكن بعضهم يبدع بعضاً في مسائل الاختلاف، وكذلك الأئمة الكبار.