[تناقض الأشاعرة في دعواهم أن مذهب السلف هو التفويض مع دعواهم تعارض العقل والنقل]
وبهذا يتبين أن طريقة التفويض هذه طريقة ممتنعة في العقل، والدليل على امتناعها في العقل: أن الناس قبل ظهور هذه الطريقة في زمن القرون الثلاثة الفاضلة في الجملة -حتى الذين انحرفوا عن طريقة السلف من المعتزلة والجهمية والمشبهة- لم يشتغل أحد منهم بطريقة التفويض؛ لأنها طريقة ممتنعة ببداهة العقول، وإن كان افتتن بها خلق ممن انتسب إلى السنة والأئمة ممن لم يحقق طريقتهم.
ومتكلمة الأشاعرة الذين يجوزونها ويرون أنها طريقة السلف حتى لا يكون مذهبهم مناقضاً لمذهب السلف بنوها على معنىً متناقض؛ لأنهم قرروا تعارض العقل والنقل -أعني علماء الأشاعرة ولا سيما بعد طبقة أبي المعالي - والتعارض الذي قصدوه تعارض في الدلالة -أي: الدلالة النقلية المعارضة للدلالة العقلية- هكذا يقررها أبو المعالي ومن بعده ممن تكلم في الأشاعرة.
فهنا السؤال: إذا كان الأشعرية ولا سيما بعد طبقة أبي المعالي يقرون بتعارض الدلالة النقلية مع الدلالة العقلية أليس العلم بالتعارض فرعاً عن العلم بمعنى الدلالتين؟ الجواب: بلى، لأنك إن فرضت أن الدلالة النقلية ليست معلومة فكيف تقول: إن الدلالة النقلية عارضت الدلالة العقلية؟
وإذا كانت الدلالة النقلية مجهولة مفوضة، ومتوقف فيها، أي: لا يعرف معناها، فكيف فرضت أنها معارضة للدلالة العقلية؟! لأنه قد يكون في نفس الأمر أنها لا تعارضه، وهذا هو الأصل حتى عند المتكلمين: أن النقل يجب أن يؤول إلى موافقة العقل.
إذاً على كل حال: طريقة متكلمة الأشاعرة طريقة ساذجة، ولهذا لما قرر المعتزلة قبلهم تعارض العقل والنقل لم يفرضوا صحة مسألة التفويض؛ لأن هذا مناقض لأصل التقرير البدهي: كونك تقول أن الدلائل النقلية معارضة للدلائل العقلية.
حسناً: هو التعارض بين الثبوت أو بين الدلالة؟ لا شك أنهم لا يقولون: الثبوت؛ لأن القرآن ثبوته قطعي، وإذا كان ثبوت القرآن قطعياً -وهذه بديهة عند المسلمين- ثم فرض التعارض في الثبوت وليس في الدلالة فبالضرورة أن العقل ليس قطعياً؛ لأن القول بأنه قطعي يؤدي إلى التعارض بين قطعيين في الثبوت ..
وهذا لا يمكن.
إذاً يرجع التعارض إلى الدلالة، وإذا رجع التعارض إلى الدلالة فمن شرط القول بأن الدلالتين بينهما تعارض العلم بمعنى الدلالتين؛ أي: أن هذه الدلالة تدل على معنى كذا وهذه الدلالة تدل على معنى كذا وبهذا العلم يقع العلم بالتعارض، أما إذا لم يعرف معنى الدلالتين أو أحدهما فإنه لا يمكن القول بأن التعارض قد وقع بينهما.
ومن هنا كان هذا القول ممتنعاً عند أرباب العقل من حذاق النظار من المعتزلة وأمثالهم، أي: أن المعتزلة أرعى لهذه القواعد العقلية في هذا المورد من الأشاعرة، وإن كان الأشاعرة أقرب إلى السنة والجماعة منهم، كما أن المصنف قبل ذلك قال: وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس ..
قال: هي بعينها تأويلات بشر.
ثم قال: بكلام إذا طالعه العاقل والذكي الذي عرف أن بشر المريسي وأمثاله أقعد بها من هؤلاء -يعني المتأخرين-.