[تضمن القرآن تفصيل مسائل أصول الدين]
فهو يقرر أن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً بالهدى ودين الحق، فمن المحال أن يكون هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم لم يتضمن تفصيل مسائل أصول الدين سواء من جهة كونها مسائل أو من جهة كونها دلائل، ولهذا يقول المصنف رحمه الله في درء التعارض: ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم في دلائله أو مسائله إلى شيء لم يقع في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لما تحقق أن الله أكمل لهذه الأمة دينها ..
وهذه مقدمة ضرورية الثبوت؛ ولهذا تكون نتيجتها ضرورية، والنتيجة هنا هي: أنه يجب في أصول الدين التزام النصوص القرآنية والنبوية، وأنه لا يصح استعمال أي دليل خارج عن الكتاب والسنة يعتبر تحصيل أصول الدين به.
وليس معنى قولنا: يعتبر تحصيل أصول الدين به.
المنع من الاستدلال بدليل عقلي لإقامة حكم شرعي إذا كان هذا الدليل دليلاً صحيحاً، وإن كان هذا الدليل العقلي لم ينص عليه في النصوص بالتصريح، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالنظر في آياته فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:١٨٥] إلى غير ذلك من الآيات، وإن لم يأمر به جميع المكلفين.
لكن الذي يقصد المصنف إلى رده: أنه يمتنع أن يكون تحصيل مسألة الأسماء والصفات مبني على دليل عقلي ليس له إشارة في القرآن.
وحينما نقول: دليل عقلي لم يذكر في القرآن.
فإن هذا ليس تناقضاً في الحرف، بمعنى: أن القرآن تضمن دلائل خبرية محضة في مسألة الأسماء والصفات، وتضمن دلائل شرعية باعتبار كونها قرآناً، ولكن من جهة ترتيبها هي مخاطبة للعقول، أي: أنها ليست قضايا مبنية على لزوم التسليم.
مثلاً: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] هذا دليل من القرآن، وهو خبري محض مقول بالتسليم، لكن قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٨ - ٧٩] وإن كان دليلاً قرآنياً، إلا أنه ظاهر فيه أن الترتيب فيه ترتيب عقلي؛ ولهذا خاطب به كفاراً لم يؤمنوا بمسألة التسليم؛ فإن التسليم من صفات المؤمنين.
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: وغلاة المتكلمين والمتفلسفة يقولون: إن الدلائل القرآنية دلائل خبرية محضة.
وهذا قول من لم يقدر القرآن حق قدره، فإن الدلائل القرآنية منها ما هو خبري محض مبني على التسليم، ومنها ما هو دلائل عقلية يثبت بها لزوم الإسلام.
ومعنى قوله: يثبت بها لزوم الإسلام أي: أنه يتحصل لمن بلغته وسمعها الدخول في دين الإسلام، والتسليم بخبر الله وخبر رسوله؛ ولهذا ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
فـ شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الموضع يورد مقدمات قطعية، وهي: أن الله أخبر بالتصريح أنه أكمل لهذه الأمة دينها، وأخبر أن نبيه صلى الله عليه وسلم بعث بالهدى ودين الحق، وأخبر أنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم البينات والهدى هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، وأخبر أن الناس قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا على شيء في العلم؛ ولهذا أياً كان قدر العقل من الكمال، وأياً كان قدر النفس من الفضيلة فإنه لا يمكن أن تصل إلى تمام المعرفة الإيمانية بدون هدى من الله.
وحينما نقول: العقل والنفس؛ لأن المناهج التي خرجت عن منهج السلف إما مناهج عقلية في الغالب كالمناهج الكلامية، أو مناهج تنبني على المقدمات والترتيبات النفسية الرياضية، وهي مناهج الصوفية؛ ولهذا كانت الفلسفة قبل الإسلام -سواء كانت فسلفة اليونان، أو فلسفة الفرس أو الهند أو غيرهم- إما فلسفة غنوصية إشراقية فيضية كالفلسفة الأفلاطونية الجديدة كما تسمى، أو فلسفة عقلية نظرية.
ومن هنا انقسم الفلاسفة إلى: فلاسفة عرفانيين غنوصيين، وفلاسفة عقلانيين نظريين.
وبعض الفلاسفة الذين انتسبوا للإسلام مذهبهم يركب من هذا وهذا، وسيأتي إن شاء الله التنبيه إلى هذا بمثاله.
إذاً: أياً كان قدر العقول من الكمال وأياً كانت فضيلة النفوس لا يمكن أن تصل إلى تمام المعرفة الإيمانية؛ وقد خاطب الله سبحانه وتعالى من هو أكمل الناس عقلاً ونفساً وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ} [يوسف:٣] وقال: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى:٧] وليس المقصود ضلاله صلى الله عليه وسلم بالموبقات أو بالشرك؛ فإنه منزه عن هذا، فقد كان عليه الصلاة والسلام حتى قبل بعثته موحداً لله على الفطرة وعلى الملة العامة، ولكن المقصود: أنه لم يعرف تفاصيل العلم؛ ولهذا قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:٥٢] أما الكتاب فلم ينزل عليه شيء قبل النبوة، وأما الإيمان فكان على إيمان مجمل، أي: ولم تعرف تفاصيل الإيمان، كما ذكره المفسرون من السلف.
فإذا كان متحققاً عند جميع المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم هو رسول الإسلام، وهو المعلم؛ فإنه يجب اعتبار الإسلام بما بعث به، وإذا قيل الإسلام فإن أخص هذا الإسلام -الذي هو دين الله، وهو خاتم الأديان- القول في أصول الديانة؛ فيلزم من هذا القطع الضروري أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حقق من جهة علمه هو، ومن جهة بيانه باب أصول الدين، ومن ذلك باب الأسماء والصفات.
فهذه نتيجة مبنية على مقدمات ضرورية العلم والثبوت، وهي: أنه صلى الله عليه وسلم علم الحق في باب الأسماء والصفات، وأنه بين ذلك للأمة.