[أول من قال بالتعطيل في الإسلام]
قال المصنف رحمه الله: [ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام -أعني: أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقةً، وأن معنى استوى بمعنى: استولى، ونحو ذلك- هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن إبان بن سمعان، وأخذها إبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم].
بدأ المصنف رحمه الله هنا ببيان إسناد مقالة التعطيل بعد أن بين إسناد مقالة أهل السنة والجماعة.
وحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه من حديث عائشة، والأئمة على قبوله، وإنما طعن فيه بعض المتأخرين بما ليس من أوجه الطعن، وما وقع له صلى الله عليه وسلم من السحر لا ينافي مقام النبوة والرسالة.
[وكان الجعد بن درهم هذا -فيما قيل- من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم).
قوله: الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم يشير به إلى محمد بن عمر الرازي الذي صنف كتاب السر المكتوم.
[ونمرود هو ملك الصابئة الكلدانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وبطليموس ملك اليونان، وقيصر ملك الروم، فهو اسم جنس ليس اسم علم، فكانت الصابئة إلا قيلاً منهم إذ ذاك على الشرك].
اتصال الإسناد الذي بعد الجعد بن درهم من جهة اليهود أو غير ذلك وكونه أخذ هذا من طالوت
إلخ محتمل، وقد ذكره بعض أهل الأخبار والسير وبعض أهل العلم، لكن المتحقق أن أول من تكلم بهذه المقالة هو الجعد بن درهم، ثم أخذها وأظهرها الجهم بن صفوان، ولو فرض جدلاً أن قبل الجعد رجلاً أو ثلاثة أو عشرة أو مائة أو أنه مع الجعد رجال ..
إلخ فإن كل هذه الفروضات لا تقدم كثيراً ولا تؤخر، إنما الاعتبار بأن هذه المقالة مقالة ليس عليها صبغة الشريعة ولا عليها صبغة اللغة؛ ولهذا ترى أنها في تقريرها ومقدماتها وتنظيمها لا تستعمل الأحرف الشرعية ولا الأحرف العربية المعروفة في لسان العرب، بل يستعملون الأعراض والجوهر الفرد والجوهر المركب، والتركيب والإمكان ..
وهلم جرا، وإن كان لهذه معان في اللسان في كثير من الموارد إلا أنها من جهة اصطلاحهم على غير ما هو معروف في لسان العرب، فمن ترتيبها وتنظيمها يعلم أنها مقالة محصلة منقولة.
[وعلماؤهم هم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركاً بل مؤمناً بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٦٢] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:٦٩] لكن كثيراً منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً أو مشركين، كما أن كثيراً من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا وصاروا كفاراً أو مشركين، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك كانوا كفاراً أو مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل].
عني المصنف رحمه الله بذكر الصابئين الذين أئمتهم الفلاسفة؛ لأن التحقيق -كما يذكر ذلك في كتبه الكبار- أن مقالة التعطيل هي مقالة فلسفية، أي: هذا التعطيل الذي قاله الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، ثم دخل على المعتزلة بصورة مقربة، ثم استعمل شيء كثير منه في كلام متكلمة الصفاتية أصل مقالته مقالة فلسفية؛ فإن الجعد بن درهم والجهم بن صفوان كانوا قبل ظهور المتفلسفة الذين يسمون بفلاسفة الإسلام، لكن لما ظهر فلاسفة الإسلام بعد هؤلاء وظهر الحسين بن عبد الله بن سينا قرر المذهب الذي قرره وأضافه إلى أرسطو، وهو يقارب كثيراً المذهب الذي كان عليه الجعد والجهم، بل يكاد يكون ينتهي إليه في الجملة، وإن كان هناك بعض الفرق في الترتيب والإطلاقات والاصطلاحات، لكن من حيث نفي الأسماء والصفات فإن المذهب واحد بين ابن سينا مع تأخره وبين الجعد والجهم، لكن ابن سينا صرح بأن هذه فلسفة، وأنه نقل ذلك عن الفلاسفة، وصرح بأنه من الممتنع أن يدل القرآن على هذا، وأنه ليس فيه إشارة أو تصريح بهذا، وأن القرآن لا يمكن تأويله، وأن المجاز غلط ..
وهذه كلها مسالك فلسفية؛ لأنه ليس من مقصود المتفلسفة هؤلاء كـ ابن سينا وأمثاله التوفيق بين فلسفتهم والقرآن؛ لأنهم يرون أن للقرآن اختصاصاً وأن لفلسفتهم اختصاصاً، فالقرآن في الجمهور، وفلسفتهم في الخاصة والحكماء.
إذاً: الناظر في كلام ابن سينا مع تأخره عن متقدمي المتكلمين يجد أن مذهبه في الصفات هو بعينه المذهب الذي قرره الجهم بن صفوان والجعد بن درهم، مما يدل على أنه مذهب منقول، لكن المتكلمين لم يصرحوا بأنه مذهب فلسفي، بل ظهر لهم في كثير من الأحوال -كما هو شأن أئمة المعتزلة- رد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم، في حين أن ابن سينا صرح بأنه فلسفة؛ ولهذا هذا مذهب منقول بالقطع.
[ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما].
أي: مذهب النفاة من الفلاسفة، وهذا هو الأسلوب الذي يستعمله ابن سينا، وهو أن الرب ليس له إلا صفات سلبية.
والسلب: هو النفي.
أو إضافية: كقولهم: إنه مبدأ الأشياء، وكقولهم: إنه علة الأشياء.
وقد كان أرسطو أصلاً لا يتكلم إلا في مسألة العلة والمعلول، فجاء ابن سينا وتكلم في مسألة الواجب والممكن وقرب فلسفة أرسطو، وقرب المتكلمون هذا وتكلموا في المحدَث والمحدِث، ولا شك أن الله محدث للعالم، لكنهم قصدوا بأن المحدَث -الذي هو العالم- يفارق المحدِث -الذي هو الخالق سبحانه وتعالى - بأن هذا المحدَث يتصف بالصفات كما تقول المعتزلة، أو أنه يتصف بالحوادث ولا يخلو منها كما تقول الأشاعرة.
قوله: (أو مركبة منهما) أي: كقولهم: إنه عاقل ومعقول وعقل، وعاشق ومعشوق ..
وهلم جرا.
فهذه هي المركبات في اصطلاح المتفلسفة، ولهذا كقاعدة: لا تفسر اصطلاحات المتفلسفة أو حتى المتكلمين بحسب ما يتبادر من اللفظ أو السياق من جهة اللسان العربي، فإن كلمة مركبة لا يدل عليها بالضرورة مثل هذا الإطلاق فيها كقولهم: إنه عاقل ومعقول.
ومثله الإضافية كقولهم: إنه مبدأ على معنى المتضايفين الذي يذكرونه في منطقهم.