[ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، وكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها.
واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلاً].
هذا معنىً فاضل: أنه إذا قال قائل: الدليل العقلي يكون كذا.
نقول: العقل لا يعارض النقل، والتعبد إنما هو بالنقل وليس بالعقل، ولكن إذا قلنا: التعبد بالنقل وليس بالعقل؛ فلا يعني هذا أن العقل فيه دلائل يتعذر على السالك مسلك النقل أن يجيب عنها، وإن كانت بعض ما جاءت به الشريعة يتعذر على العقل أن يدركه على التفصيل، وهذا لا إشكال فيه، ولهذا قال شيخ الإسلام: الرسل قد تخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول.
ومعنى قوله: محارات العقول أي ما يتحير العقل في إدراك تفصيله، ومعنى قوله: بمحالات العقول أي: ما يستحيل في العقل أو يمنعه.
وليس غريباً أن يقال: إن العقل قد يتحير أو يعجز عن إدراك التفصيل؛ لأن العقل قوة بشرية خاصة وقوة غريزية في الإنسان له حد، كما أن السمع في الإنسان له حد، والبصر في الإنسان له حد، والذوق في الإنسان له حد، والشم في الإنسان له حد، فكل قوة في الإنسان لها حد، فكذلك هذه القوة الباطنة وهي قوة الإدراك والعقل هي أيضاً قوة لها حد، لكن بحكم أنها غير مشاهدة -أي: ليست حسية- قد يصعب إدراك هذا.
فأنت تعرف أن لبصرك حداً؛ لأنك تبصر به، ولهذا لا يوجد شخص عنده شبهة في أنه يبصر وهو لا يبصر، أي: لا تكون عند شخص شبهة يقول: أنا أبصر.
فنقول: لا، أنت لا تبصر؛ لأن هناك أدلة متناقضة ومتعارضة على أنه يبصر أو لا يبصر؛ لأنها قضية حسية، لكن لأن العقل ليس قضية حسية يقع الوهم عند الكثيرين أنهم يدركون بعقولهم، مع أن العقل في نفس الأمر واقف عما يتكلمون في إدراكه، سواء من يدعي ذلك في مسائل الصفات وغيرها أو حتى من يدعي ذلك في مسائل التشريعات؛ حيث يدعي البعض أن الحكم الشرعي الفلاني لا يناسب العقل، أو أن الحد الفلاني لا يناسب العقل.
فهذه الحدود الشرعية التي قد يراها كثير من الناظرين أنها قوة على الإنسان أو شدة على الإنسان، أو كما يصنفها الكفار بأنها غير مناسبة للإنسانية نجد أنها في القرآن تذكر على أنها هي الموافقة للطبيعة البشرية؛ لأن البشر لو لم يحدوا بهذه الحدود لحصل بينهم من الفساد والتعدي ما لا ينبغي، ولهذا كان قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[البقرة:١٧٩] وكان قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً}[النساء:٢٧] ثم قال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}[النساء:٢٨] حتى بالحدود يخفف عنهم فقال: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}[النساء:٢٨] فترى أن هذه الحدود -التي هي كفارات كما وصفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم - هي تخفيف على الإنسان، وضبط لميزان الإنسانية والبشرية؛ ولهذا إذا خلا منها مجتمع من المجتمعات يحصل فيه من العدوان والضلال والبغي ما لا ينبغي.