[قاعدة الاستدلال بالمتفق على المختلف]
ومن أمثلة الاستدلال بهذه القاعدة في القرآن: الاستدلال بمسألة الربوبية على مسألة الألوهية؛ وذلك لأن المشركين كانوا يقرون بالربوبية في الجملة ويخالفون في الألوهية، والقاعدة: أن المخالف يخاطب بأصول يقر بها تستلزم التسليم بما ينازع فيه.
ولهذا لو قيل: هل هذه القاعدة تطرد؟
قيل: نعم، فما من طائفة من طوائف أهل البدع سواء كان ذلك في مسائل النظر أو في مسائل الإرادات والأحوال والتصوف، بل ولا طائفة من طوائف المشركين من أهل الكتاب أو غيرهم إلا ويقرون بما هو من المقدمات التي تستلزم الإقرار بما جاء في القرآن والسنة.
ولهذا لما كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل استدل في كتابته بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:٦٤] وهكذا كل قوم في مناظرتهم أو مخاطبتهم يخاطبون بأصل يسلمون به، وهذا الأصل تجده يستلزم التسليم بما يخالفون فيه.
وهذه قاعدة فاضلة مطردة مع سائر المخالفين من أهل البدع أو حتى من طوائف الكفار، قد يقول قائل: قد يكون الخطاب مع المجوس أو مع المشركين ..
وهلم جرا.
فيقال: وهكذا يكون؛ فإن الإقرار بوجود الله يستلزم الإقرار بالربوبية والأفعال، والإقرار بالربوبية والأفعال يستلزم الإقرار بالألوهية، والإقرار بالألوهية يستلزم الإقرار بالشرائع والنبوات ..
وهلم جرا.
وهذا هو المشهور كثيراً في القرآن في مسألة الاستدلال، مثله قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:٧٨ - ٧٩] بمعنى أن الذي قال من الكفار: من يحيي العظام وهي رميم؟ يقر بأن الله هو الذي أنشأها أول مرة، فإذا كان يقر بأنها أنشئت من العدم على غير مثال سابق لها فكذلك من باب الأولى أن تعاد إذا كانت رميماً وقد بقي أصل مادتها.
إذاً: الاستدلال بالمؤتلف على المختلف عند المخالف -وإن كان في نفس الشريعة ليس مختلفاً- يحصل هذا التحصيل، بل هو في كثير من الموارد يحصله بطريقة الأولى، أي: أن الذي خالف فيه عند التحقيق أولى في الثبوت مما وافق فيه، أي: أن الذي خالف فيه كمخالفة الكفار الذين قالوا: من يحيي العظام وهي رميم.
فإن إثبات الإعادة لهذه العظام أولى في الظهور العقلي من إثبات النشأة الأولى، وهم يقرون بالنشأة الأولى.
فهذا الاستدلال أحياناً يحصل الحكم بطريق الأولى وأحياناً بطريق التساوي، ولا يكون قاصراً في حال من الأحوال.
هذه القاعدة الفاضلة يستعملها المصنف كثيراً، وقد استعمل في الرسالة التدمرية هذه القاعدة بأصلين، فقال: الأصل الأول أن القول في الصفات كالقول في الذات، وهو يخاطب به الجهمية والمعتزلة الذين ينفون سائر الصفات؛ لأن الجهمية والمعتزلة يثبتون لله ذاتاً تليق به لا تشابه ذوات المخلوقين.
فقال: يلزم أن تثبت له صفات تليق به لا تشابه صفات المخلوقين.
الأصل الثاني قوله: إن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر وهو يخاطب بهذا من يسلم ببعض الصفات كالأشاعرة الذين سلموا بالحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة، وسلم قدماؤهم وأئمتهم بغير ذلك من الصفات الخبرية وأمثالها، فهذا الذي اتفق الأشعرية فيه مع أهل السنة يدل بنفسه على ثبوت ما نازعوا فيه.
فقوله: القول في بعض الصفات أي: القول فيما أثبتم كالقول فيما نفيتم.
إن قلتم: أن هذه الصفات السبع التي اتفق عليها الأشاعرة وقررها المتأخرون قد ثبتت بالسمع، فقد أثبت السمع غيرها، وإن قلتم ثبتت بالعقل قيل: العقل دليل، وعدم الدليل المعين ليس دليلاً على العدم، فعندنا دليل آخر وهو السمع.
إلا إن قالوا: إن القرآن ليس دليلاً.
فهذا مقام آخر يدل على زيغ وزندقة.
وأيضاً: فإن العقل يدل على غير هذه الصفات السبع، فقد كان الأشعري -وهو إمام المذهب- يثبت العلو بالعقل، وأثبت الرؤية بالعقل ..
وهلم جرا، فالعقل لا يقتصر على هذه الصفات السبع، بل إن دلالة العقل على بعض الصفات أظهر من دلالته على بعض هذه الصفات السبع.
فغالب القواعد عند شيخ الإسلام ترجع إلى هذه القاعدة، وهي قاعدة عقلية مقررة عند العقلاء: وهي الاستدلال بالمؤتلف أو المتفق على المختلف.
وهي قاعدة مطردة في دين الإسلام من مسائل أصول الدين: أن كل من نازع في أصل من أصول الدين من الكفار أو غلط فيه من طوائف أهل القبلة، وإن كان الكافر يكفر بالإسلام جملة، لكن قد يكون اختصاصه بتعيين شيء ما، فإن مشركي العرب وهم كفار آمنوا بأصل الربوبية لكنهم قالوا كما قال الله عنهم: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:٧] وقال سهيل بن عمرو: (أما الرحمن فلا أدري ما هو ..) وهلم جرا.
فيقال: كل من نازع فيما جاءت به الرسل من أصول الديانة فإن في المسلمات الضرورية والفطرية والعقلية ما يدل على ثبوت هذا الذي نازع فيه، وهكذا من غلط في شيء من ذلك من طوائف أهل البدع.
[وكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله منزه عنه حقيقة، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه].
قوله: ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم هذا أخص درجات الاستدلال العقلي، وهو أنه سبحانه وتعالى منزه عن الحدوث؛ لأن الحدوث يستلزم سابقة العدم، والرب سبحانه وتعالى يمتنع عليه العدم.