للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[دليل الأعراض]

أخص هذه الأدلة: دليل الأعراض.

وهذا الدليل استدل به المعتزلة، وكذلك الأشاعرة، والماتريدية، واستدل به كذلك المشبهة كـ هشام بن الحكم ومحمد بن كرام السجستاني.

وقد يقول قائل: كيف يستدل بدليل واحد أقوام يختلفون في المذهب كالأشاعرة والمعتزلة، بل يتناقضون؛ فإن المعتزلة خلاف المشبهة، فكيف نقول: إن المشبهة كـ هشام بن الحكم يستدل بدليل الأعراض، والمعتزلة النفاة يستدلون بدليل الأعراض مع أن هذا مذهبه هو التشبيه وهذا مذهبه التعطيل، وبينهما نسبة تضاد.

نقول: إن الخلاف يرجع إلى طريقة ترتيب المقدمات في الدليل، يعني كل مذهب يرتب مقدمات تختلف عن المذهب الآخر، فيلتزم نتائج تختلف عن نتائج الآخر، فيبقى أن الدليل بوجه عام يقال: هو دليل الأعراض، ولكن يختلف الترتيب في المقدمات والنتائج.

مثلاً: المعتزلة يقولون: إن الصفات أعراض، وأن الأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام متماثلة ولا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها.

والنتيجة من هذا أنهم قالوا بنفي الصفات.

فهم جعلوا كل ما يقوم بالذات صفة سواء كان لازماً أو متعلقاً بالقدرة والمشيئة.

فلما جاء أبو الحسن الأشعري قال: هذا دليل فلسفي.

ثم التزمه بعد أن غير في مقدمته، فقال: العرض عندنا ليس الشيء اللازم، إنما الذي يعرض ويزول، أما اللازم فلا إشكال فيه.

ومن هنا أثبت أبو الحسن الأشعري الصفات اللازمة؛ لأنها عنده لا تسمى أعراضاً، فهو قد حصر العرض فيما يعرض ويزول.

وهو الشيء الذي يتعلق بالقدرة والمشيئة، ومن هنا نفى الأشعري وجميع أصحابه الصفات الفعلية.

أما محمد بن كرام فهو يقول: إن دليل الأعراض يقود إلى إثبات الجسم، وبذلك أثبت الجسم لله

وهلم جرا.

إذاً: دليل الأعراض هو أكثر الأدلة شيوعاً في المخالفين.

وقد ذم كثير من فضلاء أهل العلم والفقهاء وبعض فضلاء المتكلمين هذا الدليل، ولكن الذين ذموه -في الغالب- لم يسلموا من تأثيره، وهذا إذا تكلمنا في غير من حقق في مذهب أهل السنة، وإلا فإن السلف قد ذموا هذا الدليل، وكذلك أتباعهم ذموا هذا الدليل ولم يتأثروا به، لكن من كان من الفقهاء له تأثر بأقوال المتكلمين فإنه قد يذم هذا الدليل مع أن نتيجة المذهب الذي يلتزمه مبنية على نفس هذا الدليل.

وبعبارة ممكن أن نلخصها: إن هناك تناقضاً أو عدم توافق بين الموقف النظري والموقف التطبيقي عند أكثر المتأخرين من المتكلمين، فهم يذمون شيئاً ومع ذلك يقعون في نفس ما ذموه أو في تأثير من تأثيره.

إذاً: دليل الأعراض: هو أنهم جعلوا الصفات أعراضاً، ورتبوا هذا على أن الأعراض ما يقابل الجوهر، وهذا عند المعتزلة، أو العرض ما يعرض ويزول ولا يبقى زمنين عند الأشاعرة ..

وهذا الكلام ليس قضية لغوية من لغة العرب، ولا قضية شرعية منصوص عليها في القرآن.

وهذا يدلنا على أن هذه المذاهب كونت تكويناً في الأصل فلسفياً، لكن بحكم إسلامية أصحابها، وانتسابهم للقبلة -ولا شك أن الأشعرية من أهل الإسلام- استدلوا بمقاصد شرعية عامة، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:٦٥].

وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] حيث قالوا: إن الأحد هو المنزه عن حلول الحوادث

وهلم جرا.

هذا الدليل هو أشهر الأدلة، وهذا الدليل -كما تقدم- إذا أبطل عند المعتزلة بطل مذهبهم، وإذا أبطل عند الأشاعرة بطل مذهبهم، حيث إن المذهب في حقيقته مرتب على هذا الدليل.

<<  <  ج: ص:  >  >>