[الأشاعرة جبرية في القدر]
[ونظيرها من بعض الوجوه: الربوبية والعبودية، فإنهما وإن اشتركا في أصل الربوبية والعبودية، فلما قال: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:١٢١ - ١٢٢] كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق، فإن من أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره، فقد ربه ورباه ربوبيةً وتربيةً أكمل من غيره، وكذلك قوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:٦] و {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء:١] فإن العبد تارةً يعنى به المعبد].
أي: أن العبودية في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:٩٣] عبودية عامة، لكن العبودية المضافة إلى الله سبحانه وتعالى في مثل قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:٦] وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:١] لها اختصاص، مع أن ثمة اشتراكاً في أصل العبودية، وهي أنهم طوع لأمر ربهم من جهة أنهم لا يخرجون عن أمره الكوني، ولا يخرجون عن قدره، فإن العباد إنما يمضون بقدر الله، وهو الخالق لأفعالهم المقدر لها.
ولهذا كان أقوى طريق اعترض به الأشعرية على المعتزلة في قولهم: إن الله لم يخلق أفعال العباد: أن هذا من باب النقص في الربوبية ..
وهذا اعتراض صحيح من الأشاعرة، وإن كان الأشاعرة لما تركوا قول المعتزلة في القدر وأبطلوه اتخذوا مذهباً -في الجملة- من جنس مذهب جهم بن صفوان، وإن كانوا من جهة الأحرف والألفاظ يوافقون أهل السنة في الجملة، فقالوا: إن للعبد إرادة وقدرة، ولكنها مسلوبة التأثير.
ولهذا صرح بعض أئمة الأشعرية أن قولهم جبر، حتى قال الرازي: العبد عندنا مجبور في صورة مختار.
وقال الشهرستاني: والجبر نوعان: جبر غال، هو جبر جهم بن صفوان، وجبر متوسط، وهو الذي سلكه أئمة أصحابنا.
وقال الرازي أيضاً: إن العباد ليس لهم في هذا المقام إلا أحد قولين: إما الجبر وإما القدر.
أي: نفي القدر، والقول بأن العبد يخلق فعل نفسه ..
ولا شك أن الأمر ليس كذلك، فإن القول الذي عند سائر الأنبياء والرسل وفي دين محمد صلى الله عليه وسلم على أتم وجه هو أن العبد ليس مجبوراً وليس مستقلاً بفعله، بل الخالق سبحانه للعبد ولأفعاله.
وفرق بين قولك: إن الله هو الخالق لأفعال العباد، وبين قولك: إن الله هو الفاعل لأفعال العباد، فالفاعل حقيقةً هو العبد؛ ولهذا وصف في القرآن بالأفعال، سواء أفعال الطاعات أو أفعال المعاصي، ووصف العباد بأنهم يعصون ويكفرون ويفسقون، وبأنهم يطيعون ويصلون ويصومون ..
إلخ، فأضيفت الأفعال من الطاعات والمعاصي إلى العباد، فالعبد هو الفاعل لفعله حقيقة وليس مجازاً كما قال الأشعرية، والله هو الخالق للعبد ولفعله، وخلقه سبحانه وتعالى تارةً يقع بمحض أمره وتارة يقع بتوسط السبب المخلوق من جهته سبحانه.
وقد رويت في كتب العقائد والتراجم كثير من القصص التي وقعت بين المعتزلة والأشاعرة حول مسألة القدر، منها: أن الأستاذ أبا إسحاق الاسفرائيني، وهو من علماء الأشاعرة وأساتذتهم الكبار، كان مقرباً من الصاحب بن عباد، الذي كان معتزلياً، وكان بينهما ندامة وصحبة وصداقة؛ ولهذا كانوا يتنادرون في مذهب كل منهم في مسألة القدر، وفي يوم من الأيام كان الصاحب بن عباد في حديقة منزله ومعه الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني، فقطع الصاحب بن عباد ثمرةً من إحدى الشجر يريد التندر بعقيدة الأشعرية، فقال لـ أبي إسحاق: يا أبا إسحاق! من قطع الثمرة؟ -لأن الأشعرية يقولون: العبد له قدرة مسلوبة التأثير، وهو يريد أن يثبت له أنه ليس كذلك- فقال: الذي يستطيع أن يعيدها.
أي: الذي يستطيع أن يعيد هذه الثمرة إلى شجرتها، أي: أنت قطعتها لكن لا تستطيع أن ترجعها إلى محلها؛ لأن المعتزلة يقولون: إن القادر هو القادر على الضدين، أي: من يستطيع أن يرفع ويستطيع أن يخفض، يقطع ويعيد، فلما قال له: من قطعها؟ قال: الذي يستطيع أن يعيدها.
ومما وقع بينهما أيضاً أن الصاحب بن عباد كان على مائدته يأكل ومعه الأستاذ الاسفرائيني، فتقصد الصاحب بن عباد شيئاً بجانب الاسفرائيني من الطعام فأخذه، فقال: يا أستاذ! من الذي أكل؟ ففي هذه الأثناء شرق بأكله -أي: غص بأكله- فقال له الاسفرائيني: من الذي غص؟
أي: إن كنت قصدت هذا فأنت أحمق، أي: كيف تقصد إلى شيء قد يقع بسببه موتك؟
وقد دخل القاضي عبد الجبار بن أحمد عليهما يوماً فسلم ثم قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء!
وهو يقصد ذم مذهب الاسفرائيني الذي يقول: إن العبد ليس له أثر في فعله.
أي: إذا جعلتم العبد ليس له أثر في الفعل فالفاعل إذاً هو الله، والله منزه عن الفحشاء التي طائفة من العباد يفعلونها، فقال الاسفرائيني مباشرة: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء! أي: وأنتم قلتم: العبد يخلق فعل نفسه، فصار في ملك الله ما لا يشاء.