[الصنف الثالث من أصناف المخالفين لمذهب السلف: أهل التجهيل]
قال المصنف رحمه الله: [وأما الصنف الثالث وهم: أهل التجهيل.
فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك.
وكذلك قولهم في أحاديث الصفات].
هؤلاء هم أهل التجهيل، وأهل التخييل وأهل التأويل لهم مدارس مختصة عرفت بهم كمدرسة الفلاسفة باختلاف طرقها الباطنية والنظرية وغير ذلك، وكمدرسة المعتزلة والأشاعرة والماتريدية.
أما أهل التجهيل فهو -إن صح التعبير- رأي شاع في كثير من الطوائف، وليس له طائفة مختصة تعرف بأنها طائفة أهل التجهيل أو طائفة أهل التفويض أو أهل التوقف، أي: ليس هناك طائفة مختصة تلتزم هذا المذهب باطراد، كما أنك تقول: المعتزلة، الأشاعرة ..
إلخ، إنما هي نظرية -أعني التجهيل أو التفويض أو التوقف- شاعت في كثير من الطوائف.
والمصنف هنا يشير إلى أن أخص من اعتنى به -أي: بمسلك التجهيل أو بعبارة أشهر وهي: مسلك التفويض- هم قوم من المنتسبين إلى السنة والأئمة الذين لم يحققوا مذهب السلف، وهو في الغالب يقع عند طائفة من فقهاء المذاهب الأربعة الذين عندهم ميل إلى صحة الطرق الكلامية ولكنهم ليسوا حذاقاً في العلم الكلامي، وإنما عندهم ميل وأثر من أثر المتكلمين من أصحاب أبي الحسن أو أصحاب أبي منصور الماتريدي، بسبب الصحبة الفقهية، حيث إن هذا المتكلم شافعي وهذا الفقيه شافعي، وكما هو معلوم كثير من المتكلمين فقهاء كـ الرازي، والغزالي، والجويني، وبعض أصحابهم الفقهاء الذين يشاركونهم في الفقه وفي أصول الفقه أو يشاركونهم في التمذهب على مذهب الشافعي أو مالك أو نحو ذلك ولم يشتغلوا بالعلم الكلامي تجد في الغالب أنهم يميلون لهذه الطريقة لا سيما وأن أئمتهم المتكلمين قرروا أن هذه الطريقة هي طريقة السلف، أو بعبارة أقرب أيضاً: هي طريقة الأئمة الذين ينتحلون مذهبهم ك الشافعي ومالك وأمثالهما.
إذاً: هذا صنف اشتغلوا بطريقة التفويض الذي يسميها المصنف طريقة التجهيل، وهم خلط من الفقهاء الذين تأثروا بأصحابهم من المتكلمين لما يجمعهم من الجوامع الفقهية والمذهبية في مسائل الشريعة.
الصنف الثاني: وهم قوم من المتكلمين من متكلمة الصفاتية، وهؤلاء طائفتان:
الأولى: تشتغل بالتأويل وتشتغل بالتفويض، أو تجوز التأويل وتجوز التفويض، وهذا هو الغالب على أصحاب أبي الحسن الأشعري.
الثانية: لم تر التفويض، وكانت تذم التفويض، لكن فيما بعد لما تبين لهم قصور طريقة التأويل سلكوا مسلك التفويض؛ لأنهم قصدوا الرجوع إلى مذهب السلف ولم يكن في علمهم أن مذهب السلف ليس هو التفويض، وهذا هو الذي تراه في كلام أبي المعالي الجويني في الرسالة النظامية، فإنه لما رجع عن طريقته التي قررها في الشامل والإرشاد، وذكر تحريم التأويل ومنعه، مال إلى طريقة ظنها مسلك السلف، وهي طريقة التفويض، ولهذا لو قيل: هل رجع الجويني إلى مذهب السلف وأهل السنة؟
قيل: من حيث الانتساب قصد ذلك، فقد تبين له أن طريقته الأولى فيها أغلاط شديدة، لكنه لم يصب المذهب من حيث التحقيق، وإن كان ينتسب إليه في الجملة.
ويدخل في الصنف الأول -الفقهاء- بعض المنشغلين بشروح الأحاديث ونحوه.
الصنف الثالث: وهم قوم من الصوفية الذين أعرضوا عن طرق الصوفية الباطنية، وعن طرق متكلمة الصوفية، وإن كان المتكلمون في الصوفية قليلين، لكن يقع لهم بعض ذلك، كما هي طريقة القشيري صاحب الرسالة، وكما هي طريقة أبي حامد الغزالي، فإن القشيري والغزالي من أعيان المتكلمين، وهم أيضاً من أعيان المتصوفة، لكن ثمة صنف من المتكلمين عادةً من الصوفية ليسوا باطنيةً كما هي طريقة المتفلسفة منهم، وليسوا مائلين إلى الطريقة الكلامية كـ القشيري والغزالي، وإنما هم بين هذا وهذا، فلديهم تأثر بأصحابهم أصحاب هذه الطرق، ففضلوا هذه الطريقة التي انضبط عند كثير من المتأخرين أنها طريقة السلف فاشتغلوا بها، وموجب الاشتغال: ما شاع عند كثير من أصحابهم وغيرهم أنها طريقة السلف، فهذا موجب.
وثمة موجب آخر: وهي أن علومهم الصوفية الأحوالية الإرادية تناسب هذه الطريقة؛ فإنهم ليسوا من أرباب النظر، وطريقة التأويل طريقة نظرية بخلاف طريقة التفويض؛ فإنها تناسب أرباب الأحوال والإرادات الذين لا يستعملون الطرق النظرية وإنما يستعملون الطرق -كما يسمى- الرياضية أو نحوه.
هذا هو الصنف الثالث الذين شاعت فيهم هذه الطريقة، وهم خلق من المتصوفة.
وقد شاعت هذه الطريقة -ولا سيما في هذا العصر- في نوع ممن اشتغل بالعمل للإسلام من وجه عام في بعض الطوائف والجماعات الإسلامية الذين قصدوا مذهب السلف ولكنهم ليسوا من أهل العلم، وتوهموا كما توهم من قبلهم خلق من الفقهاء وغيرهم أن طريقة السلف هي طريقة التفويض، فتقلدوا هذه الطريقة وهم ينتسبون إلى السلف ظانين أنها هي طريقة السلف مما فاتهم من العلم والاختصاص بمعرفة هذا الباب.